و بدأ عام هجري جديد و هو عام ألف و أربعمائه و اثنان و أربعين و به يحل علينا ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أعاده الله عليكم باليمن و اليسر و البركات.
بداية التأريخ بالهجرة
كان العرب قبل البعثة المحمدية يُؤرِّخون الأعوام بأهم حدث فيها فسموا عام بناء الكعبة، و عام الفجار، عام الفيل، و عام سيل العرم. وبعد الإسلام أصبح للمسلمين أحداثهم التي يؤرخون لها فأصبحوا يُطلِقون على كلِّ سنةٍ من السنوات اسمًا خاصًّا بهم مثل : عام الخندق، و عام الحزن، وعام الوداع. لم يزل الأمر على ذلك حتى جاء عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه و التوسعات التي أظهرت الحاجة إلى ترتيب السنوات، فعرض عمر بن الخطاب الأمر على أصحاب النبي و قال لهم :" ضعوا للناس شيئًا يعرفونه" فقال بعضهم: "اكتبوا على تأريخ الروم" فقيل: "إنَّهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول" وقال بعضهم: "اكتبوا على تأريخ الفرس".،فقيل: "إنَّ الفرس كلَّما قام ملك طَرَح من كان قبله"، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه بالمدينة فوجدوه عشر سنين، فكُتب التأريخ من هجرة رسول الله.
اختيار شهر محرم لبداية التأريخ
ثم ظهرت مسأله آخرى و هي اختيار شهرًا يبدأ منه التقويم. و ذكر ذلك محمد بن سيرين رحمه الله فقال: قام رجلٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أرِّخوا، فقال عمر رضي الله عنه: ما أرِّخوا؟ قال: شيءٌ تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حَسَنٌ، فأرِّخوا. فقالوا: من أيِّ الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان، ثم قالوا: المحرَّم، فهو منصرف الناس من حجِّهم، وهو شهرٌ حرام، فأجمعوا على المحرم، و منه تبدأ السنة الهجرية.
و قيل في سبب التأريخ أيضًا أن أبا موسى كتب إلى عمر بن الخطاب أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: «أرخ بالمبعث»، وبعضهم: «أرخ بالهجرة»، فقال عمر: «الهجرة فرقت بين الحق والباطل»، فأرخوا بها، فلما اتفقوا قال بعضهم: «ابدءوا برمضان»، فقال عمر: «بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم»، فاتفقوا عليه. وفي رواية أخرى أن أحدهم رفع صكًا لعمر محله شهر شعبان، فقال: «أي شعبان، الماضي أو الذي نحن فيه، أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئًا يعرفون فيه حلول ديونهم»، فيُقال إنه أراد بعضهم أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك، ومنهم من قال: «أرخوا بتاريخ الروم من زمان الإسكندر»، فكرهوا ذلك، وقال قائلون: «أرخوا من مولد رسول الله وقال آخرون: «من مبعثه عليه السلام»، وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكل أحد فإنه أظهر من المولد والمبعث. فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة الرسول وأرخوا من أول تلك السنة من محرمها.
هجرات النبي صلى الله عليه وسلم
الهجرة الأولى
و كانت إلى الحبشة و التي أُعتبرت الملجأ الآمن للمسلمين من بطش قريش؛ و كان ذلك في شهر رجب في السنة الخامسة من البعثة النبوية ، وبلغ عدد المهاجرين 11 رجلاً، و4 نساء، وشهد هذه الهجرة الصحابي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وزوجته رقية بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمّروا عليهم الصحابي عثمان بن مظعون رضي الله عنه.
الهجرة الثانية
و كانت أيضَا إلي الحبشة حيث جاء خبر إلى المسلمين في الحبشة أنّ أهل مكة أسلموا، فرجعوا إلى ديارهم، وعندما وجدوا أنّ الخبر ليس صحيحاً هاجروا إلى الحبشة مرة أخرى، وكان عددهم في هذه الهجرة 82 رجلاً و18 امرأة.و حاولت قريش أن تسترجع جماعة المسلمين من الحبشة، وأرسلت عمرو بن العاص، وعبد الله بن ربيعة إلى ملك الحبشة و كان ملكًا عادلًا ، لكن بعد سماعه لحُجة الطرفين رفض عودة المسلمين إلى مكة بعد أن تبين صدقهم لأنّ النجاشي كان من أهل الكتاب.
الهجرة الثالثة
و هي التي هاجر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وصادفت هجرته في الأول من ربيع الأول الموافق للسنة الثالثة عشرة من البعثة، فخرج من مكة إلى غار ثور اختبأ به من رجال قريش، ثمّ تابع هو وصاحبه إلى المدينة برفقة دليلهم عبدالله بن أرقط، حتى وصلوا إلى يثرب، فكان أول مكان نزل به هو قباء الذي بُني عليه أول مسجد في الإسلام، وبجانبه حجرته صلى الله عليه وسلم، واستقرت الدعوة الإسلامية في المدينة حتى خرجت إلى كافة مناطق العرب وخارج الجزيرة العربية، فالإسلام شهد الكثير من الصعوبات حتى أصبح له شأن يدخله كافة الناس من دون إكراه.
أسباب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
كان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم أن طريق الدعوة سيكون صعبًا وأنه سيَخرُج من بلده مُهاجِرًا؛ و هذا ما قاله له ورقة بن نوفل : "هذا النامُوسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتَنِي فيها جَذَعًا، ليتَنِي أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:" أوَمُخرِجِيَّ هم؟! "، قال:" نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشَبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي".
ومن وقتها والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - متيقن أنَّ الطريق غير ممهَّد، وأنَّه سيخرج من مكَّة حَتمًا لا مَحالة.و كان خروج النبي لعدة اسباب سنذكرها لاحقًا
أولًا عدم تقبُّل مكَّة للإسلام بادئ الأمر:
كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حَرِيصًا أشدَّ الحِرص على هِدايَة قومِه و دعوتهم إلى دين الحق و عبادة الله وحدة و استعمل كلَّ أساليب الرِّفق في الدَّعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - بشتَّى صُوَرِها، وبالحكمة والموعظة الحسَنَة، وأكبر دليلٍ على ذلك قولُه تعالى ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
ولكنَّ قريشًا أبَتْ إلاَّ أنْ تُحارِب الله ورسولَه، فبحَثَ النبيُّ عن مكانٍ آخَر يكون أكثر استِعدادًا لقبول دعوته، فكان هذا المكان هو يَثرِب (المدينة المنوَّرة فيما بعدُ).
ثانيًا استعداد المدينة المنوَّرة لقبول دعوته - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
ألتَقِيَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند العقَبَة في مَوسِم الحج ستَّة نَفَرٍ من الأنْصار، كلهم من الخَزرَج، فدَعاهُم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الإسلام، فكان من تقدير الله لهم أن لهم جِيران من اليهود، فكانوا يَسمَعُونهم يَذكُرون أنَّ الله - تعالى - يَبعَثُ نبيًّا قد أطَلَّ زمانُه، فقال بعضُهم لبعضٍ: هذا والله الذي تُهدِّدكم به يهود، فلا يَسبِقونا إليه، فآمَنُوا به وبايَعُوه، وقالوا: إنَّا قد تَرَكنا قومَنا بيننا وبينهم حروب، فننصَرِف ونَدعُوهم إلى ما دعَوْتَنا إليه؛ فعسى الله أنْ يجمَعَهُم بك، فإن اجتَمعَتْ كلمتُهم عليك واتَّبعوك، فلا أحد أعز منك، وانصَرَفُوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، حتى فشَا فيهم، ولم تبقَ دارٌ من دُورِ الأنصار إلاَّ وفيها ذِكْرٌ من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
حتى إذا كان العام المُقبِل قدم مكَّة من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً، منهم خمسةٌ من الستَّة السابِقين، وكلهم من الأوس والخزرج جميعًا، فبايَع هؤلاء رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند العقَبَة بَيْعَةَ النِّساء.
فلمَّا انصَرَفُوا بعَث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - معهم ابن أمِّ مَكتُوم، ومُصعَب بن عُمَير يُعلِّم مَن أسلَمَ منهم القُرآنَ وشَرائعَ الإسلام، ويَدعُو مَن لم يُسلِم إلى الإسلام، فنَزَل مُصعَب بن عُمَير على أسعد بن زُرارَة.
وخرَج إلى المَوسِم جماعةٌ كبيرةٌ ممَّن أسلَمَ من الأنصار يُرِيدون لقاءَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جملة قومٍ كفَّار منهم لم يُسلِموا بعدُ، فوافوا مكَّة، وكان في جُملتِهم البَراء بن مَعرُور، فرأى أنْ يستَقبِل الكَعبة في الصَّلاة، وكانت القِبلَة إلى بيت المَقدِس، فصلَّى كذلك طول طَريقِه، فلمَّا قَدِمَ مكَّة نَدِمَ، فاستَفتَى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له: "قد كُنتَ على قِبلةٍ لو صَبرتَ عليها" مُنكِرًا لفعله.
فواعَدُوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - العقَبةَ من أواسط أيَّام التَّشرِيق، فلَمَّا كانت تلك الليلة دعا كعبُ بن مالكٍ ورجالٌ من بني سلمة عبدَالله بن عَمرو بن حَرام - وكان سيِّدًا فيهم - إلى الإسلام، ولم يكن أسلم، فأسلم تلك الليلة وبايَع. وكان ذلك سِرًّا ممَّن حضَر من كفَّار قومهم، فخرَجُوا في ثُلُثِ الليل الأوَّل مُتَسلِّلين من رِحالهم إلى العقَبَة، فبايَعُوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عِندَها على أنْ يمنَعُوه ممَّا يمنَعُون منه أنفُسَهم ونِساءَهم وأبناءَهم، وأنْ يَرحَلَ إليهم هو وأصحابُه.
هكذا كانت المدينة أرضًا خصبة للدعوة والدَّولة الإسلاميَّة بما فيها من عَناصِر الدولة الثلاثة: "الشَّعب، السُّلطة، الدَّولة".
ثانيًا تعرُّضه - صلَّى الله عليه وسلَّم - للأذى من المشركين
فقد تعرَّض - صلَّى الله عليه وسلَّم - للابتِلاء الشَّديد والمِحَن العَصِيبة؛ فقد آذاه قومُه بكُلِّ أنواع الإيذاء، واستَخدَمُوا معه كلَّ ما استَطاعُوا لِوأد الدعوة ، والقَضاء عليها في مَهدِها، وتمثَّل هذا الإيذاء بنوعَيْه: بالكلام والفعل.
فقدآذوه قولًا حين قالوا عنه: "ساحر وشاعر ومجنون"، ذلك انه لمَّا نزلَتْ آية ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ صَعِدَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الصَّفا، فجعَل يُنادِي: "يا بني فِهر، يا بني عَدِي" - لبطون قُرَيش - حتى اجتمَعُوا، فجعَل الرجل إذا لم يستَطِع أنْ يخرُج أرسَلَ رسولاً لينظُرَ ما هو، فجاء أبو لهبٍ وقريش، فقال: "أرأيتَكُم لو أخبرتُكم أنَّ خَيْلاً بالوادي تُرِيد أنْ تُغِيرَ عليكم، أكنتم مُصدِّقيَّ؟" ، قالوا: نعم؛ ما جرَّبنا عليك إلاَّ صدقًا، قال: "فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديدٍ" ، فقال أبو لهبٍ: تبًّا لك سائِرَ اليوم، ألهذا جمعتَنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾
و كذلك آذوه فعلًا فقد روى البخاري من حديث عُروَة بن الزُّبير، قال: "سألتُ ابنَ عمرو بنِ العاص: أخبِرنِي بأشد شيءٍ صنَعَه المشركون بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: بينا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصلِّي في حِجرِ الكَعبة، إذ أقبلَ عُقبَةُ بن أبي مُعَيط، فوَضَع ثوبَه في عُنُقِه، فخَنقَه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكرٍ حتى أخَذ بمنكبه، ودفَعَه عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ... ﴾
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما أيضًا من حديث عمرو بن ميمون: "أنَّ عبدالله بن مسعود حدَّثَه أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُصلِّي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جُلُوسٌ، إذ قال بعضهم لبعض: أيُّكم يَجِيء بسَلَى جَزُورِ بني فلان، فيضعه على ظهْر محمدٍ إذا سجَد؟ فانبَعَث أشقى القومِ فجاءَ به، فنظَر حتى سجَد النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فوضَعَه على ظَهرِه بين كتفَيْه، وأنا أنظُر لا أُغنِي شيئًا، لو كان لي مَنعَة! قال: فجعَلُوا يَضحَكُون ويُحِيل بعضهم على بعض، ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساجدٌ لا يَرفَعُ رأسَه، حتى جاءَتْه فاطمة، فطرحَتْ عن ظهره، فرفَع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأسَه ثم قال:"اللهمَّ عليكَ بقريش" ثلاثَ مرَّات، فشقَّ عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرَوْن أنَّ الدَّعوة في ذلك البلد مُستَجابة، ثم سَمَّى: "اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعُتبَةَ بن رَبِيعة، وشَيْبَةَ بن رَبِيعةَ، والوَلِيد بن عُتبَة، وأميَّة بن خلف، وعُقبَة بن أبي مُعَيط "وعَدَّ السابع فلم يُحفَظ، قال: فوالذي نفسي بيَدِه، لقد رأيتُ الذين عَدَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - صَرعَى، في القَلِيب قَلِيب بدرٍ".
ومن أواخِر المَكِيدات الفعليَّة في مكَّة اتِّفاقُهم على قَتلِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في فِراشِه وهو ما حَكاه أهل السِّيَر؛ حيث اجتَمَع رجالٌ من قريش ذاتَ يومٍ وتشاكَوْا وتشاوَرُوا في أمر النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وانتَهَى بهم الأمرُ إلى قتْله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاقتَرَح عليهم أشقى القوم أبو جَهل بن هِشام أنْ يَأخُذوا من كلِّ قبيلةٍ شابًّا فتيًّا جليدًا نسيبًا، ثم يعطوا كلَّ شابٍّ منهم سيفًا فيَضرِبوه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضَربةَ رجلٍ واحدٍ، فيتفرَّق دمُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين القبائل فلا يقدر بنو عبدمَناف على حَربِهم جميعًا، فنَجَّاه الله منهم بمنِّه وكرَمِه.
رابعًا تعذيب المشركين للمؤمنين:
عاشَ المسلمون المؤمنون الفَترةَ التي قضَوْها في مكَّة مُعذَّبين مُضطهَدِين، والكافرون لا يَرقُبون فيهم إلاًّ ولا ذمَّة، وليس لهم من يَحمِيهم، ولا جَيْشٌ يُدافِع عنهم، فكان لا بُدَّ من خَلاصٍ لهذا الاضطهاد المستمرِّ، وهذا النَّكال المُفظِع، فكانت الهِجرَة إلى المدينة لإقامة المجتَمَع الآمِن لهؤلاء المؤمنين تُمثِّل لهم ضَرُورةً مُلِحَّةً حتى يَعبُدوا ربَّهم في مَأمَنٍ من الكُفرِ وأهلِه.
و من الأسر التي تعرضت لعذاب المشركين "آل ياسر" و قد سامَهم الكُفَّار سُوءَ العَذاب من الضَّرب والإهانة وشدَّة التَّعذِيب، حتى إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرَّ عليهم مرَّةً وهم يُعذَّبون فقال لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "صبرًا آل ياسِر؛ فإنَّ مَوعِدَكم الجنَّة".
وكذلك سيدنا بلال بن رماح الذي أُوذِي إيذاءً شديدًا عندما كانوا يكبُّوه - رضِي الله عنه - على الرَّمضاء في نَهار صيف مكَّة ويضَعُون الحجر على ظَهرِه حتى يَرجِع عن دينه، فلا يزيد إلاَّ أن يقول: أحَدٌ أحَدٌ، حتى مَرَّ به أبو بكرٍ الصِّدِّيق يومًا وهم يصنَعُون به ذلك، وكانت دار أبي بكرٍ في بني جُمَح، فقال لأميَّة: ألاَ تتَّقِي الله في هذا المِسكِين؟ حتى متى؟ قال: أنت أفسَدته فأنقِذه ممَّا تَرَى، قال أبو بكرٍ: أفعَلُ، عندي غلامٌ أسوَدُ أجلَدُ منه وأقوى على دِينِك، أعطيكه به، قال: قد قبلتُ، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكرٍ غُلامَه ذلك، وأخَذ بلالاً فأعتَقَه، ثم أعتَقَ معه على الإسلام قبل أنْ يُهاجِر من مكَّة ستَّ رِقابٍ، بلالٌ - رضِي الله عنه - سابعهم.
خامسًا الهجرة وضَرُورة إقامة الدَّولة الإسلاميَّة
كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -يرى أنَّه مكلَّفٌ برسالةٍ عالميَّة وليست محليَّة أو قوميَّة، و أن عليه أن ينشر دعوته لكافة الناس في قولِ الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ ، وقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
لذلك أحسَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ تحقيق عالميَّة رسالته لا تَأتِي إلاَّ من خِلال نِظامٍ سياسيٍّ وكيانٍ اجتماعيٍّ يَحمِيها نظامٌ عسكري في مَوطِنٍ أمين، أو بالأَحرَى من خِلال دولةٍ تَكفُل لهذه الدَّعوة حَقَّ الانتشار ، وتَحمِي أتباعها وتُؤمِّنهم؛ ومن ثَمَّ تطلَّعَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى تَحقِيق ذلك؛ إذ "سرعان ما نَجِدُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتحرَّك صَوْبَ الخروج إلى مكانٍ جديد يَصلُح لصياغة الطاقات الإسلاميَّة في إطار دَولةٍ تأخُذ على عاتِقِها الاستمرارَ في المهمَّة بِخُطًى أوسَع، وإمكانات أعظم بكثيرٍ من إمكانات أفراد تَنْتابُهم شُرور الوثنيَّة من الداخِل، وتضغَطُ عليهم قِيَمُ الوثنية من الخارج، ويَصرِفُ طاقتهم البنَّاءة اضطِهاد قُرَيش بدَلاً من أنْ تَمضِي هذه الطاقات في طَرِيقِها المرسوم؛ لذلك استمرَّ على بذْل الجهد البشري الكامل في البَحث والتَّخطِيط للهِجرة التي ستعقبُ دَولةً، وللدَّولة التي ستعقب أنصارًا.
سادسًا الهجرة من سُنَنِ الأنبياء:
إن الهجرة مَطلَبٌ دعوي تقتَضِيه طَبِيعَة النبوَّة والرِّسالة ونشر الدَّعوة، وربما هذا الأمر هو الذي حمَل بعضَ الأنبِياء على الهجرة، فلم يكن محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوَّل مَن هاجَر من وطَنِه ومَسقَط رأسه مكَّة من أجل دعوته ، وإيجاد البيئةٍ الخصبةٍ تتقبَّلها وتستَجِيب لها، بل تَذُود عَنها، فإنَّ بعضَ إخوانه الأنبياء - عليهم جميعًا أفضلُ الصَّلوات وأزكى التَّسليمات - قد هاجَرُوا قبلَه من أوطانهم لينشُرَ كُلٌّ منهم دَعوتَه".
فهذا نوحٌ - عليه السلام - قال الله - تعالى - عنه: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ .
وباستِواء السَّفِينة على الجُودِيِّ انتَهَتْ مَرحَلةٌ من مَراحِل مُهمَّة من الصِّراع بين الحق والباطل، وجاءَ الأمر الرَّباني: ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وإبراهيم - عليه السلام - كانت دعوته أصلاً بأرض العِراق، إلاَّ أنَّه كانت له هِجراتٌ إلى الشام ومصر وأرض الحِجاز؛ قال - تعالى - حاكيًا عن هِجرَة إبراهيم إلى الشام بعد نَجاته من مُحاوَلة تحريقه بالنار: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ وهذه الأرض هي الأرض المقدَّسة بفلسطين.
وهذا كَلِيمُ الله موسى - عليه السلام - كانت له كذلك هِجراتٌ قبل بعثته وبعدَها، فقد هاجر قبل بعثته عندما قتل القبطي خَطئًا؛ فخرج منها خائفًا يترقَّب، وهاجر بعد بعثته بعد أنْ كذَّبَه فرعون وقومه؛ فأمَرَه ربُّه - سبحانه وتعالى - بالهجرة قائلاً له: ﴿ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾
أحداث الهجرة
لم يكن كفار قريش يعلم أن الله قد آذن لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهجرة إلى المدينة، وبينما هم يحيكون مؤامرتهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم ـ قد غادر بيته في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر السنة الرابعة عشر من النبوة وأتى إلى دار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج والهجرة، وخشي أبو بكر أن يُحرم شرف صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فاستأذن في صحبته فأذن له، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة، واستأجر رجلاً مشركاً من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط خرّيتا( ماهرا وعارفا بالطريق)، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء ـ رضي الله عنهما ـ بتجهيز المتاع والمؤن، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لوضع الطعام فيه، فسمّيت من يومها بذات النطاقين، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة .
ثم غادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من باب خلفي، ليخرجا من مكة قبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر بدوره .
انطلق المشركون في آثار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون في جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور، وأنصت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه إلى أقدام المشركين وكلامهم .
يقول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : " قلت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا في الغار : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما" رواه البخاري .
ومكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه في الغار ثلاث ليال حتى انقطع عنهم الطلب، ثم خرجا من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، وانطلق معهما عبد الله بن أريقط (الدليل) وعامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما فكانوا ثلاثة والدليل .
و لم يهدأ كفار قريش في البحث وتحفيز أهل مكّة للقبض على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه أو قتلهما، ورصدوا مكافأة لمن ينجح في ذلك مائة ناقة، وقد استطاع أحد المشركين أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعيد، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة، إني قد رأيت أناساً بالساحل، وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه، فعرف سراقة أنهم هُم، فأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق فسقط مرة ثانيةً، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته مخاوفه، فحاول مرة أخرى فغاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم، وكتب له النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أمره بالرجوع، وكتم خبرهم .
وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بخيمة أم معبد، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها، ثم حلب في إناء وشرب منه الجميع وانتهت هذه الرحلة والهجرة المباركة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ، ليصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض المدينة المنورة .
الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
أولاً: الأخذ بالأسباب
لقد بذل رسول الله وصاحبه أبو بكر الصّدّيق كل ما في طاقتهما لإنجاح عملية الهجرة، وقد أعِدُّوا ما يستطيعون، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .
ثانيًا: الاعتماد على الله
لم يعتمد الرسول على الأسباب وترك رب الأسباب -حاشا لله- إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله، ولذلك فبعد أن بذل أسبابه كاملة تحلَّى بيقين عظيم في أنَّ ما أراده الله سيكون، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»
و لم يكن يكثر الالتفات في الطريق، فقد أدَّى ما عليه، وما أراد اللهُ واقع لا محالة. وبدون هذا اليقين لا يمكن للدولة المسلمة أن تقوم.
ثالثًا: الأمل والثقة في النصر
لم يفقد رسول الله روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطرة، وهو يخرج من مكّة بهذه الطريقة، وهو مطلوب الرأس، لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، إذا به يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأَخْذ كنوز كسرى غنيمة، «كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سِوارَيْ كِسْرَى».
رابعًا: حرص رسول الله على الصحبة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص في كل مراحل حياته، وفي كل خطوات دعوته على مسألة الصحبة، عاش حياته في مكّة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عن صاحبه في الهجرة، كل هذا، وهو من هو، هو رسول الله، ولكن كل الناس يحتاج إلى صحبة، وهو يعلمنا أن نبحث دائمًا عن الصحبة الصالحة، لقد سطَّر رسول الله قاعدة إسلاميّة أصيلة: "الشَّيْطَانُ مِعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ".
خامسًا: رسول الله القائد القدوة
و في العهد المكي ظهر لنا كيف أن القائد العظيم كان يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، يُطارد كما يُطَاردون، يتعب كما يتعبون، يحزن كما يحزنون، يعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان لا بد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولا بد أن يسير في هذا الطريق رسول الله رغم كل المعاناة والتعب.
التضحية من أجل الدين
- التضحية بالنفس:و أروع نماذج التضحية بالنفس من أجل العقيدة والقيادة، وهي تضحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يوم قبل أن ينام في سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، على علمه بخطة المشركين لاغتياله تلك الليلة، وهو يرى بأم عينيه اجتماع المشركين وبأيديهم السيوف على بابه، وهم يتحينون الفرصة السانحة للانقضاض عليه.فقد أتى جبريلُ عليه السلام، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: "نم على فراشي، وتسجَّ ببردي"
- التضحية بالزوجة والولد:وكان أول من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، واسمه عبد الله، هاجر الى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من الحبشة، فلما آذته قريش، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج الى المدينة مهاجراً.!وتقول أم سلمة رضي الله عنها ما أجمع أبو سلمة الخروج الى المدينة، رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد!؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.!قالت: فتجاذبوا بُنيَّ، سلمة، بينهم حتى خلعوا يده.!!!انطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة الى المدينة.! قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسى سنة أو قريباً منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وولدها.!؟قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: ورد بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني.!قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت بُنيَّ فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة
- التضحية بالمال:فلقد ضحى كل المهاجرين بأموالهم، فلم يخرج واحد منهم، إلا خلّف أمواله كلها أو بعضها من ورائه في مكة، فهذا صهيب الرومي حين أراد الهجرة، قال له كفار مكة: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك.!؟ والله لا يكون ذلك.! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي!؟ فقالو نعم. قال: فإني جعلت لكم مالي.! قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب." وهذه أسماء تحدث عن أبيها أبي بكر رضي الله عنه، قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، فانطلق به معه، فقالت فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه.! قالت: قلت: كلا يا أبت.!انه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً، فوضعتها في كوة في البيت، التي كان أبي يضع أمواله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال.! قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، اذا ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم.! ولا والله ما ترك لنا أبي شيئاً، ولكنني أردت أن أسكّن الشيخ.!
- التضحية بالبيت: ما من مكي إلا وترك بيته حين هاجر. وفي ترك بيت العائلة ما فيه من اللوعة والأسى، قال ابن اسحق: ثم كان أول من قدمها (أي المدينة) من المهاجرين بعد أبي سلمة، عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة. ثم عبدالله بن جحش، ارتحل بأهله وبأخيه عبد بن جحش (أبو أحمد) وهو رجل ضرير البصر، فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها يباباً (قفرا) ليس فيها سارآها كذلك أنشد في حسرة:
كل دار وإن طالت سلامتُها ** يوماً ستدركها النكباءُ والحُوَبُ.
قال ابن اسحق وتلاحق المهاجرون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس.
- التضحية بالعائلة كلها:و كان ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه الذي سخّر كل ما يملك فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخدمة لدعوته فقد سخر نفسه، وأولاده، وأمواله، وعبيده، ورواحله، وأغنامه، لخدمة العقيدة، وإنجاح الهجرة، اما هو فخادم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرافق له، يفديه بالروح والدم والعشيرة، وأما أهل بيته، ومواليه، فقد كان لكل واحد منهم مهمةفعبد الله بن أبي بكر، لتنصّت الأخبار، وأسماء بنت أبي بكر، لجلب الطعام، وعامر بن فهيرة مولاه، لتعفية الآثار.والرواحل للركوب. والغنم لشرب اللبن. والمال يستأجرون به الدليل، ويتبلغون به على الطريق.فمن مثل أبي بكر في تضحياته؟
- تضحية الأنصار بمالهم لنصرة إخوانهم المجاهدين في سبيل الله و فيهم نزل قول الله تبارك وتعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ "
و قوله تعالى
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ والْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "
سادسًا: الدعوة في مكان وزمان
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضيع فرصة إلا و يدعو فيها إلى دين الله، بدأ بأولي القربى و أصحابه و كل من يقابله. وكان صلى الله عليه وسلم حريصاً على استغلال موسم الحجّ في دعوة القبائل العربية إلى الإسلام، وكان يتحرّى أماكن تجمُّع الحجّاج، كالأسواق، مثل: سوق عُكاظ، وسوق مجنّة، وسوق ذي المجاز ليجد فرصه لنشر الدعوة و اعلاء كلمة التوحيد.
و غيرها من الدروس التي لا نحصيها في موضع واحد
ما بعد الهجرة
بهذه الهجرة السعيدة الناجحة تمت مرحلة مهمة، بل مهمة جدًّا من مراحل السيرة النبويّة، تمت المرحلة المكيّة بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها، إنها مرحلة ذات طابع خاص بل وخاصٍّ جدًّا، بدأ الإسلام فيها غريبًا، واستمر غريبًا إلى قرب نهايتها، إلى أن آمن الأنصار، ورضي الله عن المهاجرين، وعن صحابة رسول الله أجمعين.
العقيدة السليمة هي الأولوية في الإسلام
كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائديّ عند الصحابة، لا يؤمنون بإله غير الله، لا يتوجهون بعبادة لأحد سواه، لا يطيعون أحدًا يخالف أمره، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته، إيمان عميق برب العالمين، وإيمان برسوله الكريم وبإخوانه من الأنبياء والمرسلين، واعتقاد جازم بأن هناك يومًا سيبعث فيه جميع الخلائق، سيقوم فيه الناس لرب العالمين يحاسبون على ما يعملون، لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، إنها والله إما الجنة أبدًا أو النار أبدًا.
العقيدة الراسخة تعزز الأخلاق الحميدة
وإلى جانب العقيدة الراسخة، فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة الأخلاق الحميدة، والخصال الرفيعة، هُذِّبَت نفوسُهم، وسَمتْ أرواحهم، وارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض، إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء، لقد نزل الميزان الحق الذي يستطيع الناس به أن يقيِّموا أعمالهم بصورة صحيحة، وعرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعيّ للجنة طريق شاقّ صعب، مليء بالابتلاءات والاختبارات، ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر، تعب كلها الحياة، والله يراقب العباد في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يُستثنى أحد من الاختبار، ويُبتلى المرء على حسب دينه.
السعادة في طاعة الله
ومع كون المرحلة المكية بكاملها كانت عبارة عن ملبدة بالصعوبات من الإيذاء والتعذيب، سواء على الروح أو على الجسد، إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، بل كانت كل لحظاتها سعيدة، لكن ليست السعادة الماديّة الحسيّة التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، إنما سعادة الروح والقلب، سعادة الطاعة لله، سعادة الأنس بالله، سعادة الصحبة لرسول الله، سعادة الصلاة ومناجاة الله، سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين، سعادة الدعوة إلى الله، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا؛ سواء في الجسد أو في الهجرة أو في أنواع الإغراءات بالمال أو بالنساء أو بالسلطة، سعادة عظيمة، وأيّ سعادة، لقد كانت الفترة المكية بمنزلة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل.
التحديات تبني الأمم
ومن المستحيل أن يجتاز المسلمون تحديات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك، دون المرور على فترة مكّة، من المستحيل أن تُبنى أمة صالحة، أو تنشأ دولة قوية، أو تخوض جهادًا ناجحًا، أو تثبت في قتال ضارٍ، أو تقف بصلابة أمام كل فتن الدنيا إلا بعد أن تعيش في فترة مكّة بكل أبعادها.
عااااش يصديق💙💙💙💙
ردحذف