السيدة خديجة رضي الله عنها
زوجات النبي
ذكر تقي الدين المقريزي في كتابه إمتاع الأسماع الاختلاف في عدد أزواج النبي اللاتي دخل بهن على أكثر من قول، فقال: أنَّ عددهنَّ اثنتي عشرة امرأة، وفي رواية أخرى إحدى عشرة، وفي رواية ثالثة خمس عشرة، وفي رواية رابعة: ثماني عشرة، وفي رواية خامسة: ثلاث وعشرين، وقال ابن هشام: وكن تسعًا، هذا غير النساء اللاتي لم يدخل بهن، وهناك اختلاف في عددهنَّ أيضًا، وأما السراري فالمعروف أنه تسرَّى باثنتين إحداهما مارية القبطية، والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القُرظية، ،و قد مات من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته اثنتان هما خديجة بنت خويلد رضي الله عنها و زينب بنت خزيمة رضي الله عنها وتوفي هو عن تسع و هن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها، حفصة بنت عمر رضي الله عنها، زينب بنت جحش رضي الله عنها، صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها، جوريرية بنت الحارث رضي الله عنها، رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، هند بنت أبي أمية رضي الله عنها و سودة بنت زمعة رضي الله عنها.
سبب تسمية زوجات النبي لقب ام المؤمنين
نزلت الأية الكريمة بتسمية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين في قوله تعالى (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)
و قد شرف الله سبحانه و تعالى زوجات الرسول الطاهرات فجعلهن أمهات للمؤمنين فأوجب احترامهم وتعظيمهن، وحرم نكاحهن على الرجال، إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظا لحرمته في حياته وبعد وفاته، وذلك من الخصوصيات التي خص الله تعالى بها رسوله الكريم. و في الآية الكريمة تشبيه بليغ فقد حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه وأصل الكلام: أزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، وهذا كما تقول: محمد بحر أي أنه كالبحر في الجود والعطاء.
هل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهن أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
قال ابن العربي: اختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء؟ أم هن أمهات للرجال فقط ؟ خاصة على قولين:
أ- فقيل إنه عام في الرجال والنساء.
ب- وقيل إنه خاص بالرجال فقط.
قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة، والحل غير متوقع بين النساء فلا يحجبن بينهن بحرمة، وقد روي أن امرأة قالت لعائشة: يا أماه، فقالت لها: لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم.
قال القرطبي: قلت لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيما لحقهن على الرجال والنساء، يدل على صدر الآية: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل عليه قراءة أبي {وهو أب لهم} أقول: لعل الأرجح ما ذهب إليه القرطبي والله أعلم.
هل يطلق أم المؤمنين و ما يترتب عليه من حرمة النكاح على المدخول بها فقط أم التي دخل بها النبي أو لو يدخل بها؟
استدل العلماء على حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة وبقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} واختلف العلماء هل الحرمة ثابتة لكل زوجاته الطاهرات سواء من طلقت منهن ومن لم تطلق؟ وسواء أكانت مدخولا بها أو غير مدخول بها؟ على مذهبين:
ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله عليه وسلم سواء طلقها أم لم يطلقها فيثبت الحكم لكلهن، وهذا ظاهر الآية الكريمة.
وصحح إمام الحرمين قصر التحريم على المدخول بها فقط، واستدل بما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها، فكف عنه، وفي رواية: أنه هم برجمها فقالت: ولم هذا؟ وما ضرب علي حجاب، ولا سميت للمسلمين أما، فكف عنها.
الرآي الأرجح والصحيح ما ذهب إليه إمام الحرمين من أن الحرمة قاصرة على المدخول بها فقط، فلو طلقها بعد الدخول تثبت لها الحرمة كذلك، أما مجرد العقد عليها فلا يوجب الحرمة كما هو الحال في شأن المستعيذة وهي التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أراد الدخول عليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ فألحقها بأهلها، وكانت تقول: أنا الشقية، لأنها حرمت من ذلك الشرف الرفيع، شرف الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
السيدة خديجة بنت خويلد
أسمها و نسبها
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي بن عبد العزيز بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب ابن غالب بن فهر ،وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم وينتهي نسبها إلى غالب بن فهر.
نشأتها و حياتها قبل الإسلام
ولدت سنة 68 قبل الهجرة (556 م) في مكة, كان ذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم ب ١٥ عام. تربت السيدة خديجة رضي الله عنها في بيت مجد و رياسة وقد مات والدها يوم حرب الفجّار. و قد نشأت على الأخلاق الحميده, و كانت تسمي في الجاهلية بالطاهرة. وكانت كثيرًا ما تتردد على ابن عمها ورقة بن نوفل تعرض عليه مناماتها، وكل ما يمر بها من إحساس ورؤيا تراها، أو هاجس تحس به.
تزوجت مرتين قبل زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم من سيدين من سادات قريش هما: عتيق بن عائذ المخزومي و لها منه إبنه ، وأبو هالة بن زرارة التميمي و لها منه ابن يدعى هند.
ما أن بلغت خديجة سن الزواج حتى أصبحت محط أنظار شباب قريش وأشراف العرب، فقد كانت فتاة راجحة العقل كريمة الأصل ومن أعرق بيوت قريش نسبًا، فتزوجها أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي، وعاشت معه مدة ليست بالطويلة، ورزقت منه بولدين هما: هند وهالة، ثم تُوفي تاركًا لها ثروة ضخمة،[ ثم تزوجت من بعده بعتيق بن عائذ المخزومي، ثم طلقها وقيل: بل تُوفِّي عنها بعد أن رزقت منه ببنت اسمها هند، قال الإمام الذهبي: «كانت خديجة أولًا تحت أبي هالة بن زُرارة التميمي، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم، ثم بعده النبي، فبنى بها وله خمس وعشرون سنة، وكانت أسنّ منه بخمس عشرة سنة»،وقال البلاذري: «وكانت خديجة قبل رسول الله عند أبي هالة هند بن النباش بن زُرارة الأسيدي من تميم، فولدت له هند بن أبي هالة سمي باسم أبيه، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فطلقها فتزوّجها النبي، وكانت مسماة لورقة بن نوفل، فآثر الله عز وجل بها نبيه».
قصة زواجها من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
كانت خديجة ترسل الرجال في تجارتها إلى الشام واليمن، وكانت دائمَة التدقيق والتمحيص فيمن تختاره حتى تضمن سلامة أموالها وعظيم ربحها، فلما بلغها عن محمد ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، تذكرت عندما كانت تجلس مع نساء أهل مكة يوم اجتمعن في عيد لهنَّ في الجاهلية، فتمثل لهن رجل فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساء تيماء إنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد يبعث برسالة الله فأيما امرأة استطاعت أن تكون زوجًا له فلتفعل، فحصبته النساء وقبحنه وأغلظن له وأغضت خديجة على قوله ولم تعرض له فيما عرض له النساء، فبعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرًا إلى الشام، وقيل بل إن أبا طالب بن عبد المطلب عم الرسول هو من أشار إليه بالعمل في تجارة خديجة وقال له: «أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك» وبلغ خديجة ما كان من محاورة الرسول وعمه، فأرسلت إليه في ذلك، وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فقال أبو طالب: هذا رزق قد ساقه الله إليك، فخرج مع غلام خديجة ميسرة، وأوصته أن يقوم على خدمته وألا يخالف له أمرًا وأن يرصد لها أحواله، وجعل عمومة الرسول يوصون به أهل العير.
فلما قدما بصرى من الشام، نزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة قال ميسرة: نعم لا تفارقه، قال: هو نبي، وهو آخر الأنبياء، ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاح، فقال رجل احلف باللات والعزى، فقال الرسول: ما أحلف بهما قط وإني لامرؤ، فأعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبي تجده أحبارنا منعوتًا في كتبهم، وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان الرسول من الشمس، فوعى ذلك كله ميسرة، وكان الله قد ألقى عليه المحبة من ميسرة، فكان كأنه عبد له، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا كانوا بمر الظهران وقال ميسرة: يا محمد انطلق إلى خديجة، فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف لك ذلك، فتقدم محمد حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في عليةٍ لها فرأته وهو على بعيره، ودخل عليها فأخبرها بما ربحوا في تجارتهم، فسرت بذلك، فلما دخل عليها ميسرة أخبرها بما قال الراهب نسطور، وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع، وكانت قد ربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت لمحمد ضعف ما سمت له.
رجعت قافلة التجارة من الشام وقد ربحت أضعاف ما كانت تربح من قبل، وأخبر الغلام " ميسرة " السيدة خديجة رضي الله عنها عن أخلاق رسول الله وصدقه وأمانته، فأعجبها وحكت لصديقتها " نفيسة بن مُنية "، فطمئنتها "نفيسة" واعتزمت أن تخبر صلى الله عليه وسلم برغبة السيدة خديجة من الزواج منه.
لم تمض إلا فترة قصيرة حتى تلقى رسول الله دعوة السيدة "خديجة" للزواج منه فسارع إليها ملبياً وفي صحبته عماه أبو طالب بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب، ابنا عبد المطلب. وقد أثنى عليه عمها " عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصىّ " وتزوج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها.
كان عُمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حينذاك 25 عاماً، والسيدة خديجة 40 عاماً، فكانت بمثابة الأم الحنون والزوجة المخلصة.
إسلامها رضي الله عنها
كان قد مضى على زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم 15 عاماً، وقد بلغ سيدنا محمد الأربعين من العمر , وكان قد اعتاد على الخلوة في "غار حراء" ليتأمل و يتدبر في الكون و نواميسة و إسراره، وفي القوة العظمى التي تدير هذا الكون بكل هذه الدقة و الأحكام.
وفي ليلة القدر، عندما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم واصطفاه الله تعالى ليكون خاتم الأنبياء و المرسلين , انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله خائفاً يرتجف, حتى بلغ حجرة زوجته خديجة فقال: " زملوني " ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال : " مالي يا خديجة؟ وحدثها بصوت مرتجف، وحكى لها ما حدث. وقال صلى الله عليه وسلم " لقد خشيت على نفسي ".
ضمته إلى صدرها وهتفت في ثقة ويقين :" الله يرعانا يا أبا القاسم، ابشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجوا أن تكون نبي هذه الأمة، والله، لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق."
فكانت أول من آمن برسالته وصدّقه. فكانت بهذا أول من أسلم من المسلمين جميعا وأول من أسلم من النساء، وأيضا هي أم المؤمنين الأولى.أحس الرسول بالراحة والطمأنينة وهى تقوده في رفق إلى فراشه، واستغرق في نوم هادئ.
ذهبت السيدة خديجة مسرعة إلى ابن عمها " ورقة بن نوفل " وعندما سمع منها ما حدث لزوجها، رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتفض يقول في حماس : " قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده , لئن كنت صدقتني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت " .
لم تنتنظر السيدة خديجة أن يكمل "ورقة" كلامه، وأسرعت إلى زوجها الحبيب تزف له البشرى.
أبنائها من زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم
القاسم , و عبد الله بن محمد , و زينب بنت محمد , و رقية , و أم كلثوم , و فاطمة .
فضائل السيدة خديجة رضي الله عنها
سبق وفضل:
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها أول من آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، و كانت حصنه الداخلي، وركنه الشديد، و بمثابة الوزير الصادق له، والرفيق الساعي له، تخفف عنه، وتواسيه ، وتسعى في قضاء حوائجه، وكانت – رضي الله عنها – قد أكرمت رسول الله بالعمل الكريم في تجارتها، وتزوجته – رضي الله عنه – رغم فقره، وأسكنته بيتها حيث لا بيت له يملكه ، وكانت تُنفق على رسول الله من مالها حين تفَرغ لأمر الرسالة، وآمنت به حين كفر الناس، وصدّقته حين كذبه الناس، وآوته حين طرده الناس .
فإذا دخل بيته إليها – بعد يوم شاق في الدعوة والتلبيغ – سرعان ما ينسى الألم والحزن، إذا تمسح بيدها الحانية على قلبه . وكانت – رضي الله عنها – امرأة حاذقة صَنَاعٌ في إدخال السرور على زوجها والتخفيف عنه . ولقد ضُرب بها المثل في طهارتها، وضُرب بها المثل في حكمتها وضُرب بها المثل في حصافتها.
الطُهر والعفة:
و قد لقب رضي الله عنها في الجاهلية " الطاهرة "
والمرأة التي تحمل هذا اللقب في مجتمع جاهلي أكلته الفواحش، وجازت فيه الدعارة، واشتهرت فيه البغايا، هي امرأة بلغت من العفة والنقاء مبلغًا رفيعًا؛ أهْلَهَا لهذا الاصطفاء الرباني، أن اختارها الله زوجةً لخاتم الأنبياء .
ولله در العفة، بَلَّغَت أهلها الدرجات العلا
الحكمة :
وأما عن حكمتها فهي صاحبة قولة تُعد من أبلغ ما دونه العرب في الحكمة، تلك التي قالت فيها - مخففة من خشية رسول الله على نفسه يوم نزلت " اقرأ " –
" كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ "، ثم انطلقت تمشي به إلى ورقة بن نوفل – وكان عالمًا بالأديان - ، لتَحُلَ لزوجها اللغز الذي أُشكل عليه في أمر النبوة. ولم تكن بالمرأة السلبية التي لا تبالي بشؤون زوجها .
الفطنة :
وأما حصافتها و فطنتها فهي ممن كمل من النساء. وهي التي أثبتت لرسول الله أن ما يأتيه ليس بشيطان ولا جِن، فقد شرعت تمتحن برهان الوحي لتثّبت قلب زوجها، فقالت : "أَيْ ابْنَ عَمّ أَتَسْتَطِيعُ أَنّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي يَأْتِيك إذَا جَاءَك ؟
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَك فَأَخْبِرْنِي بِهِ .
فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- لِخَدِيجَةَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي ، قَالَتْ : قُمْ يَا ابْنَ عَمّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى ؛ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَتْ : فَتُحَوّلْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى.
فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَتْ : فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي .
فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا . قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فلما فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا ، ثُمّ قَالَتْ لَهُ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ لَا ، قَالَتْ يَا ابْنَ عَمّ اُثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ "
فقد علمتْ – برجاحة عقلها – أن الملائكة تستحي، وأن الشياطين تستحي، فتحيلت هذه الحيلة، وفثبتت وبشرت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . وخير الناس للناس من يَفطن لحاجاتهم، ومَن فاته العقلُ والفطنة فرَأْسُ مالِه الجَهْلُ.
الصبر على تطليق بناتها :
لم يزعزع إيمانُها رضي الله عنها ولم تتزحزح ثقتُها بزوجها يوم تسببت الدعوة الإسلامية – بزعم البعض – في تطليق بناتها .
" وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ زَوّجَ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ رُقَيّةَ أَوْ أُمّ كُلْثُومٍ . فَلَمّا بَادَى قُرَيْشًا بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى وَبِالْعَدَاوَةِ، قَالُوا : إنّكُمْ قَدْ قَرّغْتُمْ مُحَمّدًا مِنْ هَمّهِ فَرُدّوا عَلَيْهِ بَنَاتِهِ فَاشْغَلُوهُ بِهِنّ . فَمَشَوْا إلَى أَبِي الْعَاصِ فَقَالُوا لَهُ فَارِقْ صَاحِبَتَك وَنَحْنُ نُزَوّجُك أَيّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ شِئْتَ قَالَ : لا وَاَللّهِ، إنّي لا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي ، وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ خَيْرًا ... ثُمّ مَشَوْا دار أبي لهب، فأجابهم، وطُلقت رقية وأم كلثوم "
ولم يصدر منها ولا من البنات لفظة تشائم أو تبرم، أن ابتلاهم الله بفض هاتين الزيجتين، ولم تقل خديجة كما تقول نساء بعض الدعاة : لقد جلبت لنا دعوتك خراب البيوت، وطلاق البنات ! ما ذنبهن ألا يفرحن ويُحْمَلن إلا أزواجهن؟!.....
لم تقل هذا . بل صبرت، ورأت أن حكمة الله اقتضت، أن يبدلنهن بزوج أكرم وأخلق وأغنى وأجمل مما كُنَّ يطمحن إليه . فحالهن مع الله كحال الطفل الذي سلبه أبوه الطعام الخبيث ومنحه الطعام الطيب الغريض.
الصبر على الحصار :
وذلك انه لما كُتبت وثيقة الحصار الظالمة، وسيق المسلمين إلى الشِعِب، وقاطعتهم قريش وجوّعتهم، كانت خديجة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راضية محتسبة، ولم يصدر منها كلمة عتاب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولم تتبرم له، بل ثبتت معه في المحنة، وعزمت أن تبقى إلى جواره حتى تنقشع الظلمة، ورضيت أن تترك منزلها الفاخر وفراشها الوثير وتخرج حبيسة مع رسول الله بين جبلين، تُعاني الحَر والقَر، تفترش الحصباء وتلتحف السماء، وتكابد الجوع والفقر، وهي الغنية الحسيبة.. تكابد الظمأ والخشونة، وهي السيد الشريفة.. وطالت بها أيام الحصار وهي واثقة راسخة رسوخ الشم الروسي، سامقة سمو الجوزاء العوالي ..كل ذلك على مدار سنوات الحصار الثلاث من شهر المحرم للعام السابع للبعثة وحتى المحرم للعام العاشر للبعثة .
لها بيت في الجنة من قصب :
ولما انقشعت ظلمة الحصار، وتبدد كابوس السجن، خرجت – رضي الله عنها – وقد أعياها المرض، وبراها الجوع، وهدَّمت بنيانها سنوات الضنك، فخرجت من سجن الناس إلى رحاب الله الرحيب، بعدما بشرّها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة من لؤلؤ – وبيوت الجنة قصور -، تنعم في قصرها بغاية الهدوء والنعيم، وقد نزل الأمين جبريل – خصيصًا – ذات يوم حاملاً رسالة عاجلة وسلامًا مُخَصَصًا من الله رب العالمين إلى إلى السيد الجليلة . فما أكرمها وأكرم منزلتها
فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال :
أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ؛ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلامَ مِنْ رَبِّهَا – وَمِنِّي -، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فِيهِ ولا نَصَبَ.
وهكذا أرسل الله لها التحية والبشارة، محمولتنا من أمين السماء" جبريل"، مدفوعتان إلى أمين الأرض " محمد "، ليقوم بدوره بتليغ التحية الكريمة والبشارة الكريمة، من كريم عن كريم عن كريم إلى سيدة نساء العالمين " خديجة " .
محبة النبي لها لم تنقص بوفاتها:
وكان رسول الله يحن إليها، ويذكرها دومًا، فلا يزال يذكر فضائلها حتى تغار إحدى زوجاته، وكان يكرم صويحبات خديجة، فإذا ذبح أو طبخ أهدى إليهن، إكرامًا لها. وهي في قبرها !
وإذا ذكرَها ذاكرُها في حضرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا به – صلى الله عليه وسلم – يرق لها، ويذكرها، ويستغفر لها، ويذكر فضائلها حتى يأتيه عارضٌ يقطع عليه حديثة، وضجرة – كضجرة عائشة – تحوْلُ بغيرتها بين رسول الله وبين الحديث عن خديجة، بيد أن العكس يحصل، فإذا غارت عائشة ونالت من خديجة كما تنال المرأة من ضرتها فقالت: " عجوزٌ ! قد أبدلك الله بخير منها "، زادت الطينة بلة، فيزيد رسول الله في ذكرها ويكثر من الحديث عن فضلها أكثر وأكثر ، ويستمر الحال حتى تأتيه عادية أو صارفة تقطع الحديث عن فضل خديجة
وفاتها رضي الله عنها
توفيت – رضي الله عنها- في رمضان من العام العاشر من البعثة، ودفنت بمدافن مكة عند جبل الحجون، عن خمس وستين سنة.
رحلت خديجة رضي الله عنها راضيةً مرضيَّةً، تاركةً وراءها فراغًا لم يُملأ بعد، ذلك بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفْقِد بِموتها شريكةَ حياته الأولى، ورائدةَ بيته المُثلى، وأمَّ ولده الفُضلى وحسْب، ولكنه فقد بموتها أكبرَ عونٍ له - من بعد الله عزَّ وجل - على تبليغ الرسالة، واحتمال أعباء الدعوة، كما فقد المؤمنون الأوَّلون بموتها أمًّا لم تلدهم، ولكنها أوْلى من أمَّهاتهم اللائي وَلَدْنَهم برًّا، وأقرب لهم نفعًا.
و ماتت رضي الله عنها ولم تر في الدنيا لقاء ما قدمته، فلم تفرح بغنيمة، ولم تر دولة المسلمين، بيد أن الأجر العظيم الذي لا ينقطع فضله قد أخره الله لها، فليس بمقدور ملوك الأرض جميعًا أن يوفوا لها أجر صنيعها، إنما الجدير بذلك ربها الذي خلقها وهو ملك والملوك . فجزاك الله عنا يا أماه خيرًا .
تعليقات
إرسال تعليق