الفتح الإسلامي للأندلس
أصل كلمة الأندلس
ذكر بعض المؤرخون أن كلمة الأندلس تقابل كلمة "فاندالوسيا" (وهي مشتقة من اسم الوندال) التى كانت تطلق على الإقليم الروماني المعروف باسم باطقة الذى احتلته قبائل الوندال الجرمانية ما يقرب من عشرين عاماً ويسميهم الحميري الأندليش. ويرى البعض أنها مشتقة من قبائل الوندال التى أقامت بهذه المنطقة مدة من الزمن و قبائل “الوندال” الجرمانية كانت قد غزت إسبانيا من الشمال فى القرن الخامس الميلادى واستقرت فى سهلها الجنوبى وأعطته اسمها “أندلوس” ثم جاء المسلمون وعربوا هذه الكلمة إلى أندلس.
ويرى البعض الآخر أنها ترجع إلى أندلس بن طوبال بن يافث بن نوح .
وقيل أيضًا أنها مشتقة من اسم قارة أطلانتس الغارقة بجوارها فى المحيط غربا أو أنها مشتقة من اسم قبائل و هناك من يرى أن كلمة الأندلس هي كلمة بربرية أشتقها العرب من الأمازيج وأطلقوها على بلاد فتحوها و هي شبه الجزيرة الإيبيرية.
و بين هذا و ذاك تظل كلمة الأندلس هي ذكرى للمجد الإسلامي العربي الذي تبدد بسبب الصراعات و النزاعات على السلطة.
ما المقصود ببلاد الأندلس
و بلاد الأندلس تشير إلى أراضي شبه جزيرة إيبيريا التي فتحها المسلمون، و كان يطلق عليها أسبانيا المسلمة و إيبيريا المسلمة و وهي المنطقة الواقعة في أوروبّا الغربية أو جنوب غرب أوروبّا، و مساحتها ستمائة ألف كيلو متر تقريبًا و يفصلها عن بلاد المغربي العربي مضيق درب الزقاق الذي عرف فيما بعد بمضيق جبل طارق.
أين هي بلاد الأندلس في العصر الحديث
تمثل بلاد الأندلس في العصر الحديث أراضي كلٍّ من إسبانيا والبرتغال وهما من الدول الأوربية، وقد امتدَّت أراضي الأندلس في ذروة مجدها إلى سبتمانيا الواقعة جنوب فرنسا.
بلاد الأندلس قبل الإسلام
مما لاشك فيه أن أوروبا في عصر الفتوحات الإسلامية و المجد الإسلامي كانت تتقلب في ظلمات الجهل و التأخر و البؤس حتى قيل أن الناس كانو يُباعو و يشتروا مع الأملاك و عم الفساد في كل مكان . و ذكر بعض الرحالة العرب الذين زاروا تلك البلاد أن الأخلاق كانت متدنية و الحرمات منتهكة و مقومات الحياة الطبيعية معدومة. و ذكر بعضهم أن أهل اوروبا كانوا يهملون في نظافتهم الشخصية فشعورهم تنسدل على وجوههم و لا يهذبونها و لا يستحمون إلا مرة او مرتان في العام و يعتقدون بأن الاوساخ المتراكمة على أجسادهم صحة و بركة. ومما قيل أيضًا أنهم لم يكن عندهم لغة منطوقة و كانوا غالبًا ما يتحدثون بالإشارة. و كان من جملة افكارهم الغريبة ما اعتنقوه من فكر الهنود من حرق جثث الموتى وحرق زوجاتهم و كل من يحبهم معه.
سكان الأندلس قبل الإسلام
يعتبر اليبين و الكلتز هما أقدم الشعوب التى سكنت أيبريا (أسبانيا و البرتغال)، و اليبين شعب أتى من الجنوب من الجزر التى في البحر الأبيض المتوسط، بينما الكلتز Celts شعب أتى من الشمال.
و قد أستوطن اليونانيون و الفينيقيون بعض المدن و الثغور الأيبيرية. وغزاها الرومان و قاموا بتحويلها إلى ولاية رومانية الثقافة و كاثوليكية الدين بعد أن كانت تنتشر العقيده الآريوسية بين أهل البلاد و نجح الرومان في تغيير اللغه إلى اللاتينية.
حكام الأندلس قبل المسلمين
في أواخر القرن الرابع الميلادي استطاع القوط الغربيون بقيادة ألاريك أن يُسيطروا على مصائر القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية؛ بما قَدَّمُوه من خدمات أوصلت الإمبراطور الروماني تيودوسيوس إلى العرش، فلما مات الإمبراطور عام (395م) أصبح ألاريك -زعيم القوط الغربيين- أقوى قائد في غرب أوربا ووسطها، فما لبث أن حاول السيطرة على روما نفسها (عاصمة الإمبراطورية الرومانية) ونجح في هذا فعلاً عام (410م) في مأساة لا يزال يتذكرها التاريخ الأوربي.
وفي هذه الفترة كانت الدولة الرومانية قد سمحت لقبائل الوندال الهمجية -التي تستوطن شبه الجزيرة الأيبيرية- بالاستقرار في منطقة الشمال الغربي من الجزيرة؛ بشرط ألا تُهَدِّد استقرار المناطق الأخرى، غير أن كثرة القبائل وهمجيتها وضعف الدولة الرومانية، جعل هذه القبائل تُسيطر على كل الجزيرة -تقريبًا- وتُهَدِّد بلاد الغال (فرنسا ) وتمارس تخريبًا همجيًّا كبيرًا.
و انتهى الصراع في روما بموت ألاريك فَخَلَفه أطاووف في زعامة القوط الغربيين، وتطوَّرت الأحوال إلى أن أقرَّت الإمبراطورية الرومانية أطاووف في جنوب بلاد الغال(فرنسا) ، ثم سَلَّطَتْه على قبائل الوندال، فاستمرَّ زحف القوط الغربيين الأقوياء يُنهي ويضغط ويطرد قبائل الوندال إلى الجنوب، وفي أثناء تراجع الوندال كانوا يُخَرِّبُون ما بقي من حضارة الرومان في شبه الجزيرة، إلى أن انتصر القوط الغربيون وأحكموا سلطانهم على الجزيرة؛ خاصة في عهد الزعيم القوي (واليا Valia).
لكن لم يلبث الأمر كثيرًا حتى تضعضعت الإمبراطورية الرومانية؛ مما جعل القوط الغربيين يستقلُّون عن الإمبراطورية بحكم شبه الجزيرة، واتخذ (يوريك Euric) لقب الملك في عام (467م)، وهو يُعَدُّ المؤسس الحقيقي لدولة القوط الغربيين.
و قبل الفتح الإسلامي لإسبانيا بسنة أو تزيد قام أحد رجال الجيش واسمه لُذريق بالاستيلاء على السلطة وعزل الملك غِيطشَ، وغداةَ الفتح الإسلامي كان لُذريق هو حاكم البلاد.
و مما لا شك فيه أنه رغم تفشي الفساد في أسبانيا و الإضطرابات و التأخر الإقتصادي تحت حكم القوط إلا انهم أقامو دولة تتمتَّع بقوة عسكرية مُدَرَّبة وقوية، تقارع الأحداث وتقف للمواجهات و بإمكانها أن تقف في وجه الجيوش و تمثل تحديًا.
أول من فكر في فتح بلاد الأندلس
من المعروف أن الفتح الإسلامي للأندلس كان على يد القائد العسكري الفذ طارق ابن زياد بتكليف من موسى بن نصير والي إفريقيا في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك لكن موسى بن نصير لم يكن أول من فكر في فقد سبقه في التفكير عثمان بن عفان الذي استطاعت الجيوش الإسلامية في عهده بلوغ القسطنطينية لكنه لم يستطيع فتحها و قال حينها "إن القسطنطينية إنما تُفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان". و ذلك أن على المسلمين فتح القسطنطينية لكي يفتحو بلاد الأندلس.
أهم الروايات وراء الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس
ظهرت روايتان في السبب وراء الفتح الإسلامي للأندلس فهناك من أرجعها للإنتقام الشخصي, و ذلك أن الكونت يوليان حاكم سبتة كانت له ابنة جميلة إسمها فلورندا وأن الكونت أرسلها إلى القصر الملكي القوطي في طليطلة لتتأدب و تتعلم كغيرها من فتيات الطبقة الراقية, فرآها الملك القوطي لذريق Rodrigo و أحبها فاعتدى عليها, فكتبت رسالة إلى ابيها تخبره و تشكو له ما حصل, فذهب يوليان إلى القصر و أخذ ابنته من هناك, و أصبح يوليان يريد الانتقام فاتصل بموسى بن نصير و أقنعه بغزو اسبانيا مبينا له سوء الاحوال فيها فاستجاب موسى لطلبه و أقدم على الغزو بعد أن استأذن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.
و الرواية الأخرى لم تبتعد كثيرًا عن نفس السبب و هو الإنتقام لكن السبب في الإنتقام هو أن الملك القوطي وقلة Akhila, عندما عزل من ملكه ذهب انصاره إلى حليفه الكونت يوليان حاكم سبتة طالبين منه المساعدة, فقادهم يوليان إلى موسى بن نصير بالقيروان حيث تم الاتفاق على أن يمدهم موسى بجيش من عنده ليرد إلى ملكهم المعزول عرشه بشرط دفعهم جزية سنوية للعرب.
لكن الأسباب الأكثر منطقية لفتح الأندلس هي :
- أولا إن أهم مقاصد الجهاد التي شرع من أجلها تبليغ رسالة التوحيد ، بكسر جميع الطواغيت التي تحول بينها وبين الناس ، ودعوة الناس إلى الإسلام من غير إكراه ولا إجبار ، بل عن طواعية واختيار .
يقول الله تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة/193 قال قتادة رحمه الله : " حتى لا يكون شركٌ ، "ويكون الدين لله" : أن يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل نبيُّ الله ، وإليها دعا . "
- ثانيا كانت " الأندلس " واسمها القديم " أيبيرية " خاضعةً للإمبراطورية الرومانية ، وفي مطلع القرن الخامس الميلادي – أي حوالي عام 410 م اجتاحتها قبائل " القُوط " الأريوسية المذهب ، وأسسوا فيها دولةً قُوطِيَّة عاصمتها " طليطلة " كانت شعوب " الأندلس " الأصلية من الكنعانيين الكاثوليك كانت - قبل الفتح الإسلامي - خاضعة للنفوذ القوطي ، وتكوَّن سكانها من طبقات أربعة متناقضة متصارعة :
- طبقة القوط الحكام المستعمرين
- طبقة الأعيان الرومانيين ومعهم الإقطاعيون
- و رجال الدين
- وطبقة اليهود
- وطبقة الشعب العامل من سكان البلاد الأصلين.
و بذلك فهي بلاد محتلة مضطهدة أصلا ، ولم تكن تحت حكم سكانها الأصليين ، ولم يكن المسلمون هم المبتدئين للاحتلال ، إنما خلصوا البلاد من احتلال ظالم إلى بلد مسلم يختار أهله عقيد المسلمين ، وينتسبون إلى دولتهم .
- ثالثا زيادة على الاحتلال الذي فرضته القبائل القوطية الغربية على بلاد الأندلس ، كان التسلط والظلم والاضطراب سمةً بارزة في فترة حكمهم التي امتدت نحو ثلاثة قرون . فقد كان سلطانهم لم يستقر في البلاد أول الأمر بسبب ما ثار بينهم وبين أهل البلاد من منازعات دينية ، وبسبب ما شجر بين أمرائهم من خلافات ، ولهذا ظلت البلاد طوال القرن السادس نهبا للحروب الأهلية ، وما ينجم عنها من الفوضى وسوء الحال...- حتى كان آخر حكام القوط – واحد اسمه " رودريكو " ( لذريق )كان يشعر باضطراب الأمر عليه ، ظل حياته متخوفا من وثبة تكون من أحد أعدائه الكثيرين ؛ لأن هؤلاء الأعداء لم يكونوا أولاد " غيطشة " وحدهم – الذين استولى " لذريق " على ملكهم – بل كانوا في واقع الأمر جلة الشعب الإيبيري الروماني واليهود ، أي معظم أهل البلاد التي اقتحمها القوط عليهم " حتى نُقل عن " رفائيل بالستيروس " المؤرخ الإسباني قوله : إن العرب لو لم يتدخلوا في سنة 711هـ في شؤون الجزيرة ، ويضعوا نهاية لهذا العصر المضطرب ، لَبَلَغَ القوطُ بإسبانيا مبلغا من السوء لا يسهل تصوره .
- رابعا لما اشتد ظلم حكام القوط في تلك البلاد ، وضاق الشعب بهم ، أرسلوا إلى المسلمين يطلبون منهم تخليصهم والنجاة بهم ، فقد أجمعت المصادر العربية على ذكر إرسال حاكم " سبتة " واسمه " يوليان " أو جوليان " إلى موسى بن نصير يطلب منه دخول البلاد وتخليصهم من شر " لذريق " ، كما ذكرت المصادر إرسال أبناء " غيطشة " إلى موسى بن نصير يستنجدون به على مَن غصبهم ملك أبيهم ، و ذكرت المصادر التاريخية الغربية تنسب إلى اليهود المضطهدين في " الأندلس " من قبل القوط استنجادَهم بِمَن وراء البحر من " الأفارقة " أو " المسلمين " ليخلصوهم من ظلم " لذريق " وأعوانه ، وهو أمر وإن أنكره بعض المؤرخين ، غير أن المتفق عليه بينهم أن اليهود تعرضوا في تلك الفترة إلى اضطهاد كاد يفنيهم ولا يبقي لهم أثرا .
- خامسًا و ليس أكثر دلالة أن دخول المسلمين كان بالتراضي من أهلها إلا ما ذكرته المصادر أن الأندلسيين استقبلوا المسلمين استقبال الفاتحين. حتى أن بعض أساقفة النصارى شاركوا في مساعدة المسلمين على الفتح.
- سادسا ويُتَوَّجُ ما سبق بالقطع واليقين أن دخول المسلمين لم يكن إحتلال إننا حين نستحضر أن فتح تلك البلاد لم يستغرق إلا نحو ثلاثة سنين وصل فيها المسلمون إلى فرنسا ، ولم يشارك فيه إلا بضعة آلاف من الجنود مما يقطع بأن الأمر لم يكن فتحا عسكريا بالقدر الذي كان فتحا فكريا وعقائديا ، آمن فيه سكان " الأندلس " بعقيدة المسلمين ، واختاروا – عن حب وطواعية – التسليم لهذا الدين الجديد ، والتخلص من طغيان الكنيسة والإقطاع الذي كان سائدا قبل المسلمين.
ملخص أحداث فتح الاندلس
لقد كان فتح المسلمين لإسبانيا نتيجة لخطة موضوعة, أقرها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بدمشق, باتفاق مع قائده على المغرب موسى بن نصير. قام موسى بن نصير بعدة حملات استكشافية على جنوب اسبانيا , فقام باستدعاء حليفه الكونت يوليان حاكم سبتة, قام يوليان بحشد جيوشه وجاز في مركبين إلى الأندلس وشن الغارة على الساحل الجنوبي, فسبا و قتل و غنم و رجع و امتلأت يديه خيرا وشاع الخبر في كل قطر فتحمس الناس للغزو.لم يكتفي موسى بهذه الغارة الاستطلاعية التي قام بها يوليان بل استدعى أحد ضباطه و هو طريف بن مالك، فأمره بشن غارة على ساحل الأندلس الجنوبي فعبر طريق المضيق ب100 فارس و 400 راجل و ذلك في يونيو سنة 710م 91 هـ في رمضان في طريفه, نزل طريف و جنده و أغاروا على المناطق التي تتبعها إلى جهة الخضراء فغنم منها الكثير و عاد سالما. فتبين لموسى بن نصير أن ما قاله يوليان كان صحيحا عن ضعف المقاومة في إسبانيا, فأعد موسى جيشا من سبعة آلاف محارب لغزو الاندلس بقيادة طارق بن زياد.
اعتمد موسى بن نصير على الأساطيل الإسلامية التي كانت تحت قيادته على طول الساحل المغربي, وجه موسى طارق بن زياد إلى طنجة و من هناك انطلقت السفن العربية الإسلامية إلى الجبل المعروف حتى اليوم بجبل طارق.
معركة جبل طارق
عند نزول طارق بن زياد و جيشه إلى سفح الجبل لقوا مقاومة عنيفة من القوط الذين كانوا على علم بأن المسلمين قادمون لغزوهم نتيجة الغارات الاستطلاعية التي شنت من قبل, فاضطر المسلمون لتغيير خططهم العسكرية و قرروا النزول ليلا في مكان صخري وعر, فاستخدموا براذع الدواب و مجاذف السفن لكي تعينهم على خوض المياه و ارتقاء الصخور فالتفوا بذلك حول جموع القوط و انقضوا عليهم قبل أن يشعر القوط بهم. وكان هذا النصر الأول الذي أحرزه طارق عند نزوله أرض الأندلس و تمكن من احتلال الجبل المسمى باسمه حتى اليوم.
خطبة طارق بن زياد و حادثة حرق المراكب
قصة حرق المراكب هي قصة شائعة في تاريخ فتح الأندلس تفيد القصة بأن طارق قد أحرق سفنه بعد نزوله الشاطئ الإسباني لكي يقطع على جنوده أي تفكير في التراجع و الإرتداد. و قيل في سبب ذلك أيضًا أن طارقًا أحس بأن العرب لا يثقون به و توقع أنهم لن ينزلوا معه إلى الجبل فعمد إلى إحراق سفنه كي يحول دون إنسحابهم بها إلى المغرب.. ثم خطب فيهم خطبته المشهورة التي قال فيها:
"أيها الناس. أين المفر؟ البحر من ورائكم. والعدو أمامكم. وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته. وأقواته موفورة. وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم. ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم. ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم. وتعوَّضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (يقصد لذريق) فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة. وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة. ولا حَمَلْتُكُمْ على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً. استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي".
ثم أردف قائلًا:
"وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا. وأختانًا. ثقة منه بارتياحكم للطعان. واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان. ليكون حظُّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة. وليكون مغنمًا خالصة لكم من دونه. ومن دون المؤمنين سواكم. والله – الله – ولَّى أنجادكم على ما يكون لكم ذِكرًا في الدارين. واعلموا أنني أول مُجيب لما دعوتكم إليه. وأني عند مُلتقى الجمعين حامل نفسي على طاغية القوم لذريق. فقاتله -إن شاء الله- فاحملوا معي. فإن هلكت بعده. فقد كفيتكم أمره. ولم يعوزكم بطلب عاقد تسندون أموركم إليه. وإن هلكت قبل وصولي إليه. فاخلفوني في عزيمتي هذه. واحملوا بأنفسكم عليه. واكتفوا الهمَّ من الاستيلاء على هذه الجزيرة بقتله؛ فإنهم بعده يُخذلون".
معركة كورة شذونة
أقام طارق بن زياد في جبل طارق عدة أيام, بنى خلالها سورا أحاط بجيوشه سماه سور العرب, كما أعد قاعدة عسكرية بجوار الجبل على الساحل لحماية ظهره في حالة الانسحاب أو الهزيمة و هي مدينة الجزيرة الخضراء, و التي سميت أيضا بجزيرة أم حكيم، إن موقع هذا الميناء قريب و سهل الإتصال بمدينة سبتة على الساحل المغربي المقابل, بينما يصعب الإتصال بإسبانيا نفسها بسبب وجود مرتفعات بينهما, كذلك أقام قاعدة أمامية أخرى في مدينة طريفة بقيادة طريف بن مالك. و علم الملك القوطي لذريق خبر نزول المسلمين في بلاده, كان الملك لذريق مشغولا ذلك الوقت بإخماد ثورة قام بها البشكنس سكان نافارا في أقصى شمال إسبانيا. فأسرع الملك لذريق بالعودة إلى جنوب إسبانيا بجميع قواته لملاقاة المسلمين. في ذلك الوقت كان طارق بن زياد قد اتجه نحو الغرب متخذا قاعدة طريفة قاعدة يحمي بها مؤخرة جيشه ثم أكمل سيره حتى وصل بحيرة تعرف باسم بحيرة لاخندا في كورة شذونة. بعث طارق جواسيس له إلى الشمال ليروا حجم الجيش الذي سيواجهه المسلمون, و عندما عادوا إليه أبلغوه عن ضخامة الجيش الذي جهزه له الملك لذريق, فانزعج طارق لهذا النبأ و كتب إلى موسى بن نصير يطلب منه أن يمده بالمزيد من الجند, فاستجاب له موسى فوجه له خمسة آلاف جندي فأصبح عدد جيش المسلمين في الأندلس إثنا عشر ألفا.
و قد كانت المعركة الفاصلة التي دارت بين المسلمين و القوط و التي حددت مصير الأندلس حدثت في كورة شذونة جنوب غرب إسبانيا, استمرت المعركة مدة ثمانية أيام من الأحد في 28 من رمضان إلى الأحد 5 شوال عام 92هـ و من 19 - 26 يونيو عام 711م, و وصفوها بأنها كانت معركة شديدة ضارية، اقتتل فيها الطرفان قتالا شديدا حتى ظنوا أنه الفناء, و لم تكن بالمغرب مقتلة أعظم منها, و أن عظامهم بقيت في أرض المعركة دهرا طويلا لم تذهب، و انتهت المعركة بانتصار المسلمين و هزيمة الجيش القوطي. و قد سميت هذه المعركة بأكثر من إسم في أكثر من مصدر فقد سميت باسم معركة البحيرة, و وادي لكة, و وادي البرباط, و شريش, و السواقي, و تنسب هذه التسميات إلى تلك الأماكن التي دارت و تشعبت عندها تلك المعركة الواسعة النطاق في أراضي كورة شذونة. بعد المعركة الفاصلة و انتصار طارق بن زياد أصبحت جميع المعارك التي قامت في أنحاء الأندلس ما هي إلا مناوشات بسيطة بالنسبة لهذه المعركة الكبيرة, فقد استولى المسلمون على الأندلس خلال ثلاثة أعوام مما يدل على انتهاء المقاومة تقريبا.
إتمام فتح الأندلس
بعد النصر الذي حققه طارق بن زياد في معركة شذونة فتحت أبواب الأندلس للمسلمين و اتجه طارق بالجيش شمالا نحو العاصمة طليطلة, و في أثناء سيره واجهته قلعة اسمها إسيجه Ecijah , فحاصرها ثم استولى عليها, في ذلك الوقت أرسل طارق أقساما من جيشه إلى المناطق الجانبية في الأندلس, اتجه قسم إلى قرطبة بقيادة مغيث الرومي مولى عبد الملك بن مروان, فاستولى عليها بعد حصار دام ثلاثة أشهر, واتجه قسم آخر إلى البيرة و ما يحيطها و فتحوها. و من الجدير بالذكر أن طارق وجد و قادته عونا من اليهود المقيمين في إسبانيا بسبب اضطهاد القوط لهم و لذلك اعتمد طارق عليهم في حفظ المناطق المفتوحة في أنحاء البلاد. استمر طارق بزحفه نحو الشمال حتى وصل العاصمة طليطلة, فدخلها دون مقاومة تذكر, إذ كان حكامها و أهلها قد هربوا منها, فكانت المدينة شبه خالية تقريبا، فغنم المسلمون من كنائس المدينة و قصورها ذخائر و كنوزا كما تشير المصادر العربية.
خشي طارق بن زياد من أن يقطع عليه القوط الطريق في تلك المناطق الجبلية الوعرة, لأن فصل الشتاء قد اقترب و تعب الجيش الإسلامي من الجهود التي بذلها, و الغنائم التي ثقل بها, فكتب إلى موسى بن نصير يطلب منه العون, و في شهر رمضان عام93هـ يونيو 712م, عبر موسى مضيق جبل طارق بجيش كبير من 18 ألف محارب, معظمهم من العرب بعصبياتهم القيسية و اليمنية, و من بينهم عدد من التابعين و قد عرف هذا الجيش العربي الأول بطالعة موسى بن نصير . و سار موسى بن نصير من طريق غربي غير الطريق الذي سار به طارق, و استولى على مدن أخرى غير التي استولى عليها طارق فاستولى على إشبيلية و ماردة و قرمونة, ثم و صل إلى نهر التاجو بالقرب من طليطلة فالتقى بطارق بن زياد هناك. ثم تابع القائدان سيرهما نحو الشمال باتجاه جبال البرتات (البرانس) و أخذت المدن تتساقط بين أيديهم مثل وشقة و لاردة و سرقسطة, حتى وصلا إلى شاطئ البحر الشمالي عند الحدود الإسبانية الفرنسية.
و هكذا أنهى كل من طارق و موسى من فتوحاتهما, و أمر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك برجوع القائدين إلى دمشق, فعاد موسى و طارق و خلف على الأندلس عبد العزيز بن موسى بن نصير واليا عليها عام 95هـ 714 م.
لم يتبقى من الأندلس سوى بعض المناطق الشرقية و الشمالية الغربية, أما شرق الأندلس فقد فتحها الأمير عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي أصبح واليا على الأندلس, تركزت المقاومة في كورة تدمير (مرسية حاليا) و كانت لها قاعدة حصينة و هي أريولة, سميت هذه الولاية بهذا الاسم نسبة إلى اسم حاكمها الأمير القوطي تيودمير الذي منحه عبد العزيز شروطا ضمنت له أن يحكم ولايته مقابل جزية سنوية.
أما الجزء الشمالي الغربي من الأندلس, و هي المنطقة المعروفة بأستورياس Asturias في جليقية أو غاليسيا Galicia, فإن الأمويين لم يفرضوا عليها سيطرتهم بالكامل, بسبب برودة مناخها و وعورة طرقها, فأهملوا هذا الجانب استهانة بشأنه, نتيجة لذلك تمكن بعض من تبقى من الجيش القوطي المنهزم بزعامة القائد المعروف باسم بلاي أو بيلايو Pelayo, لجأ هؤلاء القوط إلى الجبال الشمالية في تلك المنطقة, و هي ثلاثة جبال عالية, تسمى القمة الغربية منها باسم أونغا onga فيها كهف يعرف باسم كوفادونغا Covadonga, أما العرب فيسمونها باسم صخرة بلاي لأن بيلايو اختبأ فيها عندما حاصرهم المسلمون و عاشوا على عسل النحل الذي وجدوه في خروق الصخور, عندما عرف المسلمون أمرهم, تركوهم استهانة بأمرهم و وانسحبوا و قالوا: " ثلاثون علجا ما عسى أن يجيئ منهم؟ ".و على إثر انسحاب المسلمين قامت في تلك المنطقة (شمال غرب إسبانيا) مملكة أستورياس.
كم قرن حكم المسلمون الأندلس؟
أستمر حكم المسلمون للأندلس حوالي ثمانية قرون فقد دخل المسلمون بلاد الأندلس فاتحين بقيادة القائد الفذ طارق بن زياد رحمه الله، بعد معركة بوادي التي كانت في رمضان سنة 92هـ الموافق يوليو سنة 711م. وخرجوا منها بعد سقوط غرناطة في أيدي الصليبيين من الأسبان وغيرهم في ربيع الأول من سنة 897 هــ الموافق: 1492 م . أي استمر حكم المسلمين للأندلس حوالي 781 سنة أي سبع قرون و واحد ثمانين عامًا.
مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس
لقد سيطر المسلمون على أغلب مناطق الأندلس وصولًا إلى جنوب فرنسا، وأثناء عهد الولاة دخلت أعداد كبيرة من السكان الأصليين في الإسلام، وبقي من بقي على دينه متعايشًا مع المسلمين مشاركًا لهم في حياتهم التي تطورت حتى صار لها طابعها الخاص المتفرد المختلف عن باقي الأقاليم الإسلامية، والمتميز بتنوعه وشموله اجتماعيًا وثقافيًا وفنيًا وعلميًا وأدبيًا، وبلغت الحضارة الإسلامية في الأندلس مستوًى متقدمًا ومتطورًا قلّ نظيره في زمانه؛ حتى أصبحت في كثير من الأحيان مقصدَ العلماء والأدباء والمثقفين، وقبلة طلاب العلم من العالم الإسلامي، وكانت مقصدَ المتعلمين المتنوّرين من أوربا المسيحية، ينتهلون من معين علومها، عائدين به إلى بلدانهم التي عانت في تلك المراحل من ظلام الجهل، ومحاربة العلم وأهله.و قد ظهر تأثير الحضارة الإسلامية في الأندلس جليًا في نواحي شتى نذكر منها
العلوم الكونية والإنسانية في الأندلس
فقد كانت الحياة العلمية في بدايات الحضارة الإسلامية في الأندلس متأثرةً بالحالة العلمية في باقي الأقطار حيث صبّت أغلب اهتمامها في دراسة الطبيعة وسبر أغوار الكون؛ لتنتقل بعد ذلك العقلية العربية من الإيمان بالماورائيات نحو النزوع الفكري العلمي في لإدراك الحقائق، ولاسيما في العلوم البحتة كالفلك والحساب والفلاحة، وبالرغم من إدراك المفكرين العرب أنّ الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى المعرفة المطلقة التي تمكنه من الإجابة عن جميع الأسئلة؛ إلا أنّهم آمنوا أنّ الإنسان بإمكانه أن يصل إلى أقرب نقطة من بؤرة الحقيقة، وهكذا أخذ علم الفلك القائم على الحساب والمشاهدة والتجربة الدقيقة يبتعد عن أفكار التنجيم القائم على التوهّم، واقترن علم الفلك بعلم الأرقام، ونقل العرب للإندلس الأرقام الهنديّة التي تعرف بالأرقام العربية، وألغي العمل بالأرقام اللاتينية الرومانية، وهي التي تعود بأصلها إلى ترتيب أحرف الهجاء، وبسبب إرسال السفارات والمعاملات التجارية انتقلت هذه الأرقام إلى أنحاء أوروبا.
مجال الفلك في ظل الحضارة الإسلامية في الأندلس
و قد لمع عدد لا يحصى من العلماء على رأسهم أبو القاسم المجريطي صاحب كتاب "رسالة في الاصطرلاب" وقد أنجب المجريطي عددًا من التلاميذ الذين بنوا المدارس ودُور العلم، ونبغ منهم أبي السمح الغرناطي، وابن الصفار الذي برع بالفلك والرياضيات، وكذلك المهندس المعروف عبد الرحمان بن زيد الذي اشتهر بالفن المعماري والفيزياء، وتبعهم الزرقالي القرطبي الذي قام بأكثر من 400 عملية رصد فلكي؛ بهدف تحديد أوج الشمس، ومحاولة الضبط الدقيق لنقطة الاعتدال الربيعي، وغيرهم الكثير من الأسماء التي قدمت التجارب وألّفت العديد من الكتب.و لا ننسى ذكر صاحب التجربة الأولى في الطيران، العالم عباس بن فرناس الشّهير في مجال الفلك والكيمياء والفيزياء، وهو الذي شرح آلية طيران الطائر، وقام بتجربة الطيران الأولى بمساعدة ثوب اخترعه من الحرير والريش، فتسنى له الطيران لمسافة اختلف العلماء في تقديرها مع إقرارهم بطيرانه وتحليقه قبل أن يسقط حين حاول الهبوط، وقدّر لهابن فرناس بعدها أن يعيش ليشرح أسباب سقوطه، مؤكدًا أنّ عدم وجود الذيل في ذلك الثوب كان من أهم الأسباب.
العلوم الزراعية و الطب و الصيدلة
ومنذ بدايات الحضارة الإسلامية في الأندلس خطت جميع العلوم الزراعية خطوات كبيرة، ولاسيما في صناعة النسيج الحريري ومجالات المحاصيل الغذائية، وامتدّ أثرُها إلى أنحاء أوروبا، وقوي هذا المجال بمؤازرة العلماء المختصين بالأعشاب الطبية والأدوية؛ حيث كانت فنون الصيدلة وعلوم الطب تشهد تطورًا كبيرًا بمختلف اختصاصاتها، حتى صدرت عن بعض االعلماء كتبٌ ورسائل في جوانب محددة متخصصة، وبلغ الطبّ أوجه في الحضارة الإسلامية في الأندلس أثناء القرن السادس الهجري حين جمع علماء الطب مع علوم الفلسفة والأمور النفسية، وباتوا يقرنون العلوم الكونية كالطب بمتعلقاتها الإنسانية، كما اعتنى الأندلسيون بالطبّ الباطني والطب الوقائي. واشتُهر في علوم الزراعة أبو الحسن القرطبي وعبد الرحمن بن وافد الذي كان مشرفًا رسميًا على الحدائق الملكية في قرطبة، وذاع صيت العالم والأديب أبو بكر الإشبيلي، وتلميذه أبو زكريا بن العوّام، وتطول قائمة العلماء الذين برعوا في فنون الصيدلة والطب، ومنهم أبو جعفر الغافقي مؤلّف كتاب "الأدوية المفردة" وكتاب "المرشد في الكحل" عن طب العيون، وكذلك اشتهر ضياء الدين ابن البيطار صاحب كتاب "الجامع لمفردات الأغذية والأدوية"، وهو موسوعة طبية مرتّبة على أحرف الهجاء، وفي الأندلس لمع اسم واحدٍ من أعظم أطباء المسلمين وهو أبو القاسم الزهراوي الذي حقق إنجازات لا تحصى في فن الجراحة وطب النساء والحمل والولادة، وإزالة الأورام، ووصف مرض الناعور، واستخراج الحصى، وخياطة الجروح بالخيوط الحريرية، وله الفضل في اختراع عدد كبير من أدوات الجراحة التي لا تزال تستخدم حتى اليوم وشهدت مختلف العلوم الإنسانية تطورًا كبيرًا، وعلى رأسها الفكر التعليمي الذي لاقى دعمًا كبيرًا من الحكّام الذين اهتموا باللغة والشعر والفلسفة والمناهج الدراسية، فوضعت الشروط التي يجب توفرها في المعلمين كالتقوى والأمانة العلمية، كما تطور الفكر التأريخي الإبداعي الذي جمع بين العقل والنقل، وخرج علم التاريخ من الثوب الديني مفسحًا المجال إلى المؤرخ التاجر والمؤرخ الطبيب والمؤرخ الفيلسوف، وعلى هامش هذا تطوّر فن الرحلات، ووصفها الدقيق للجغرافية والمدن وطبائع المجتمعات.
الأدب والموسيقى
و قد شهد الأدب في الاندلس في ظل الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا بشقّيه النّثري والشّعري في مختلف العصور السياسية الأندلسية،
أولًا النثر
و قد اشتهرت بدايةً الكتابات الرّسمية التي سجلت الغزوات وأخبار الفتوحات، واتكأت في كثير من ملامحها على الأسلوب الديواني المشرقي، كما تطورت الكتابات الوصفية، ولاسيما في المقارنة بين المدن وأنواع الزهر، وكذلك تطورت الكتابات الذاتية، ومنها فن الأخوانيات والرسائل المتبادلة بين الأدباء والسلاطين والوزراء، وقد اعتنى أغلب الكتّاب بظاهرة الزّينة اللفظية وفنون البديع إلا قليلًا ممن فضّلوا الكلام المرسل السهل، ومن أهم الأدباء الذين اشتهروا في فنون النثر من خطابة ومقامة ومناظرة وغيرها ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد، وابن الشهيد صاحب "رسالة التوابع والزوابع"، وابن سيدة صاحب شرح مشكل أبيات المتنبي، وابن الزيدون الذي افتنّ برسائل الغزل وبالرسائل الهزلية والاعتذاريات.
ثانيًا الشّعر
و كان من أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس، حيث تفنّن الأندلسيون في مختلف الأغراض، وتميزوا بأغراضهم التي ناسبت ظروف الأندلس من الفتح إلى الإنهيار، من ذلك الأراجيز العلمية والمنظومات التي أرّخت أحداث الفتوح والغزوات، ثم الشّعر الذي يتحدث عن أمجاد الحضارة الإسلامية في الأندلس، وبرع الأندلسيون بالشعر التعليمي، ووصف الطبيعة، ثم برعوا في رثاء المدن الزائلة والممالك التي سقطت بإيدي الإسبان، وأبدعوا في فن الموشّحات الذي اقترن بفنون الغناء والموسيقا، وقد اشتهر من الشعراء بداية عدد من الأمراء الأندلسيين كعبد الرحمن الداخل، ومن العامّة يحيى بن الحكم الغزال، وفي عهد الخلافة ابن عبد ربه وجعفر المصحفي، ثم في باقي العصور اشتهرت أسماء كثيرة كابن هانئ الأندلسي، وابن زيدون، ومن الأمراء المعتمد بن عباد، واشتهر من النساء ولادة بنت المستكفي، وفي عهد المرابطين ابن خفاجة والأعمى التطيلي الذي نبغ في الموشحات، وفي عصر الموحدين الرصافي البلنسي، وابن مرج الكحل، واشتهر أبو البقاء الرندي في رثاء المدن ولمع في الرثاء ايضًا اسم الوزير لسان الدين بن الخطيب الذي ترك أكثر من 60 مؤلفًا شعرًا ونثرًا. وازدهر أيضًا الغناء الذي بدأ ترفًا في قصور الملوك والأثرياء الذين استقدموا المغنين والقينات، ثم دخل الغناء والموسيقا في الطقوس والتقاليد الشعبية ليتحول بعدها لطابع أندلسي بحت جمع مختلف أساليب الطّرب والموسيقا الحجازية والشامية والعراقية والمغربية والزنجية والمسيحية الكنائسية، واشتهر من المغنين علي بن نافع المعروف بـ زرياب الأندلسي، وابن باجة، وابن أبي الصلت الأندلسي الذي أسس مدرسة للموسيقا ومن النّساء قمر البغدادية وقلم الباسكية وصبح البشكنجية.
العمارة الإسلامية
ويعد فن العمارة الإسلامية في الأندلس من أعظم مظاهر الحضارة الإسلامية في الأندلس فنّ العمارة الذي ما يزال شاهدًا على عظمة تلك الحضارة التي استمرت مئات السنين، وقد أولت جميع العصور الأندلسية اهتمامًا كبيرًا قلّ نظيره في جميع مجالات العمران كدور العبادة، وما فيها من قباب ومقرنصات إسلامية ومآذن، ومن أبرزها مسجد قرطبة، وكذلك القصور المشهورة بالحدائق ونوافير المياه والصالونات الفريدة المرخّمة والجدران المزخرفة والغرف والإسطبلات، ومن أهمها قصر الحمراء في غرناطة، وتشهد على حرفية المهندسين وخبراتهم العظيمة مدنٌ بأكملها كمدينة الزهراء وقرطبة وغرناطة وأشبيلية بكل ما في هذه المدن من مبانٍ ودورٍ للسكن وحدائق وأسواق ومدارس ومكتبات ومستشفيات.
التجارة والصناعة
وكانت المدن الأندلسية بمثابة الأسواق الدولية في الوقت الحاضر، وذلك طيلة فترات حكم الحضارة الإسلامية في الأندلس، وقد تنقّل التّجار بحرية كبيرة بين المدن، وعلى طول الطرق البرية والبحرية مع بلاد المغرب وإفريقيا، وكذلك مع المشرق الإسلامي، واشتهر التاجر الأندلسي بالسلع التي تصنع في الأندلس، وعلى رأسها الصناعات الزراعية كالخشب، وخيوط الحرير الأندلسية، وزيت الزيتون، كما ازدهرت تجارة الجواري اللائي يقعن في الأسر، ويستقدم التاجر الأندلسي من إفريقيا والمشرق مختلف أنواع البضائع كالتوابل والصوف والحبوب، وازدهرت تجارة الكتب والمؤلفات بين الأندلس والمغرب مع انتقال أعداد كبيرة من علماء المشرق للأندلس أو العكس، وشهدت موانئ الأندلس تطورًا كبيرًا مع تطور صناعة السفن.
المجتمع الأندلسي وعلاقته بالشعوب الأوربية
ومعروف أن شبه الجزيرة الإيبيرية تتبع جغرافيًا لقارة أوروبا، وهو ما كان سببًا كافيا لتأثر الحضارة الإسلامية في الأندلس بكثير من المكونات الأوربيّة مع حفاظها على الإرث الأكبر الذي نقلته من بلاد المسلمين، ولا سيما بلاد المغرب وشمال إفريقيا، وكل هذا جعل للأندلس انتماءً مزدوجًا خلق مجتمعًا متميزًا ومركبًا في علاقاته الدّاخلية والخارجية، وقد تكوّن المجتمع الأندلسي من خليط كبير انصهر وتمازج وتعايش لسنين طويلة، فالمكوّن العربي تشكّل من قبائل عديدة توافدت إلى الأندلس أيام الفتح وفي العصور اللاحقة، يضاف إليه المكوّن المغربي الإفريقي المتمثل بقبائل البربر التي شاركت بالفتوح، ثم ازدادت في عصر المرابطين والموحدين، وقد تمازج المسلمون عمومًا مع المكوّن الأوروبي تمازجًا كبيرًا وفيهم الإسبان والقوط والرومان والفاندال والجرمان، وجماعات من اليهود ومن غير اليهود استفادوا جميعهم من الفتح الإسلامي الذي أعاد لهم حقوقهم التي نهبها حكام الدولة القوطية. و قد كانت الحضارة الإسلامية في الأندلس سببًا في دخول أعدادٍ كبيرةٍ من السّكان الأصليين في الإسلام، فيما بقي القسم الآخر على النصرانية واليهوديّة تحت حماية الإمارة الإسلامية، ونتج عن تزاوج العرب بالإسبانيات عنصر جديد يدعى بالمولدين، وقد شكّل مع الوقت القسم الأكبر من السكان، وقد حدث شرخ في هذا النسيج في عهد ملوك الطوائف والعهود اللاحقة حتى السقوط، مع وجود عناصر جديدة أخرى هم المدجنون والمستعجمون، وهم المسلمون الذين بقوا في المدن التي حازها الإسبان، فاصطبغت ثقافتهم بسمات المجتمع الإسباني، ومنهم من حفاظ على دينه، ومنهم من اعتنق المسيحية، وكانت حصيلة هذا الاندماج احتكاكًا كبيرًا ومتميزًا بين العقيدتين وبين الثقافتين والحضارتين على نحوٍ فريدٍ ليس له مثيل، ولم تنقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين الأندلس والشعوب الأوربية رغم الحروب البرية والبحرية الطويلة، وعندما بدأت الصحوة العلمية لدى بعض الفئات الأوربية لم يجدوا غير بلاد المسلمين يقصدونها لينهلوا من معين علومها وثقافتها.
مختصر عن أثر الحضارة الإسلامية في الأندلس
لقد تركت الحضارة الإسلامية في الأندلس أثارًا كبيرةً في مجموع الحياة الثقافية والعلمية الأوربية مع أثرها الأكبر على المستوى العقائدي الإسلامي، فضلًا عن الأمور الإدارية والسياسية والعسكرية والحضارية والفنية، وهنا لا بد من ذكر الحركة النشطة للترجمة من العربية التي كانت لغة العلم والحضارة والثقافة في القرون الوسطى المظلمة أوربيًا، حيث برزت في ظل الحضارة الإسلامية في الأندلس مراكز كبرى في حركة الترجمة كطليطلة وأشبيلية، وتأثرت اللغة اللاتينية بمفرادات لا تحصى من اللغة العربية مع تعلّم عدد الكبير من الطلاب الأوربيين لأصول اللغة العربية، كما دخلت العلوم من خلال هؤلاء الطلاب إلى إيطاليا وصقلية وعموم أوربا عبر فرنسا التي كانت معبر الثقافة العربية والإسلامية إلى الشعوب الأوربية، وهي التي تأثرت بشكل الكبير في فن العمارة الإسلامية، ويتضح ذلك جليًا في طريقة بناء كثير من كنائس المدن الفرنسية.
أثر الفتح الاسلامي للأندلس على الحضارة الإسلامية
لقد كانت الأندلس سببًا من أسباب تعرف العرب والمسلمين على العقلية الأوربية المختلفة عن الطبيعة الرومانية، حيث عرف العرب في الأندلس شعوب الفاندال والنورمان والجرمان والفايكنغ، وكان من أثر الأندلس على العالم الإسلامي أن خلفت إرثًا أدبيًا وفنيًا وعلميًا عظيمًا، وبقيت بعد سقوطها جرحًا وحزنًا مؤلمًا يردد المسلمين قصصه على مرّ التاريخ بأشعارهم وكتاباتهم حين يزورون مدنها وقصورها التي تعيد لهم ذكرى ذلك الفردوس المفقود.
مراحل حكم المسلمين في الأندلس
أولًا عهد الولاة (من عام 95 – 138 هجري)
- في عام 92 هجرية فتح طارق بن زياد الأندلس، ثمّ قادها بعد الفتح أول والٍ عليها وهو عبد العزيز بن موسى بن نصير، وقد كان هذا العصر تتمّة لعصر الفتوحات، وتوالى على ولاية الأندلس اثنان وعشرون والياً، ولم يكن هذا العصر مستقراً، وآخر ولاة الأندلس في هذا العهد هو يوسف الفهري، حيث استمرت ولايته تسع سنوات وتسعة أشهر.
ثانيًا عهد عبد الرحمن الداخل والدولة الواحدة
- وهو (من عام 138 - 399 هجري) في عام 132 هجري انتهت الدولة الأموية، وبدأت الدولة العباسية؛ و تولّى الخلافة أبو العباس السفاح، وبدأ بتتبع الأمويين الذي تواروا عن الأبصار، وتفرّقوا في البلدان، وكان من ضمنهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام المعروف بصقر قريش و عبد الرحمن الداخل، والذي استطاع الفرار منهم. و استطاع عبد الرحمن الداخل التواصل مع من في الأندلس، ووجد له أنصاراً هناك، ودخل الأندلس، وجمع الناس من حوله، وحصلت المعركة الفاصلة بينه وبين والي الأندلس يوسف الفهري، وهزمه في هذه المعركة التي سميت (المصارة)، وفرّ يوسف الفهري هارباً. في عام 138 هجري دخل صقر قريش قرطبة، ولقّب بالداخل لأنه أول من دخل الأندلس حاكماً من الأمويين، وتمت سيطرته على قرطبة، وبعدها توجه إلى المسجد، وخطب في الناس، وكان يوم جمعة، وطمأنهم، وبثّ فيهم الأماني بمستقبل زاهر، وبدولة يعمها الخير، والعدل، وكونه خليفة أموي، اعتبر المؤرخون ولايته على الأندلس امتداداً للخلافة الأموية، إلا أنّ هذه الخلافة الأموية فعلياً قد انتهت، وحلت محلها الخلافة العباسية. أثناء توليه الأندلس قامت ضده خمسٌ وعشرون ثورة، استطاع أن يهزمها جميعاً، ودامت ولايته إلى أن توفّى في عام 172 هجري؛ حيث تولاها ابنه هشام. استمر حكم الأندلس على يد أمير واحد حتى عام 399 هجري، وكان آخر ولاتها عبد الرحمن بن الحاجب المنصور (شنجول)، وبعدها تمزقت الأندلس، وعاشت بعد ذهاب الخلافة سنوات من الفرقة والتمزق إلى دول وممالك، حتى بلغت اثنتين وعشرين إمارة.
عهد ملوك الطوائف (من عام 400 – 483 هجري).
- و بعد أن أصبحت الأندلس عبارة عن دويلات، أو طوائف، سمّى المؤرخون هذا العهد بعهد ملوك الطوائف؛ حيث بدأت كل عائلة مرموقة بالسيطرة على مدينة، وقد وصل عدد هذه الطوائف إلى عشرين طائفة وهي: (بلنسية، ودانية والبليار، والبوت، وأركش، وقرطبة، ووَلبة، وغرناطة، وشنتمرية، ومورور، ومرسية، وقرمونة، والمرية، ورندة، وسرقسطة، وبطليوس، وإشبيلية، ولبلة، وباجة، وطليطلة، وبربشتر، وشنتمرية الغرب)، وقد استغلّ النصارى هذا التمزق، وسيطروا على ثلث الأندلس، وعاش الأندلسيون حياة من التمزق، والصراعات، أدت بعد ذلك إلى سقوط طليلطة، عندها قرر علماء الأندلس الاستعانة بالمرابطين آملين بذلك حماية الأندلس وتوحدها.
رابعًا المرابطين (من عام 483 – 541 هجري)
- المرابطون هم قبيلة من البربر، وأطلق عليهم اسم المرابطين لأنّهم أقاموا رباط الخيل للاستعداد في سبيل الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" (متفق عليه)، وكان يطلق عليهم اسم المتلثّمين، لأنهم كانوا يضعون اللثمام على وجوههم. عندما استعان أهل الأندلس وعلماؤها وملوكها بالمرابطين، كان أمير المرابطين وقتها يوسف بن تاشفين، والذي عُرف بدينه وقوته العسكرية، وبالفعل حضر ابن تاشفين إلى الإندلس، ولكن ملوك الطوائف اشترطوا عليه أن يُقدّم لهم المعونة العسكرية، وينصرهم على النصارى الذين كان يقودهم آنذاك الفونسو وأنه وبعد انقضاء مهمته يخرج من الأندلس، ويتركهم يحكموا دولتهم بأنفسهم، فوافق ابن تشافين على ذلك شريطة أن لا يعاهدوا الفونسو بعد ذلك ولا يُقدّموا له المال، كسابق عهدهم، ولا يضعوا يدهم بيده، وعلى ذلك تم الاتفاق. حضر ابن تاشفين وعسكر جنوب الأندلس، ثمّ حارب الفونسو وحارب معه بعض ملوك الطوائف، وشاركوه الحرب، وأشهر المعارك هي معركة الزلاقة، التي هزم فيها ابن تاشفين الفونسو هزيمة ساحقة. بعد انتهاء المهمة غادر ابن تاشفين الأندلس، وعاد إلى المغرب، ولكنه بعدها علم بأنّ ملوك الطوائف نقضوا عهدهم معه، وخانوا الأمة الإسلامية، وعادوا إلى سابق عهدهم في محاباتهم لألفونسو، عندها قرر ابن تاشفين العودة إلى الإندلس، وتوحيدها، وقام بنفي ملوك الطوائف ومن ضمنهم كبيرهم وأعظمهم شأناً المعتمد بن عباد، ونفاه إلى المغرب. بدأ ابن تاشفين بعد ذلك بتوحيد الأندلس، واستطاع ذلك، وفي عام 500 هجري توفى ابن تاشفين، وولى ابنه علي على ولاية الأندلس، وكان ذلك في عام 495 هجري، وعند وفاته تولى ابنه علي إمارة المرابطين، وعاد للمغرب وجعل أخيه تميم قائد جيوش المرابطين في الأندلس. في عام 540 وقعت معركة تُسمّى الوقيعة الكبرى؛ حيث هُزم المسلمون على يد النصارى الذين حاربوا الأندلسيين والمرابطين معاً لإخراجهم من الأندلس. في عام 541 هجري انتهى حكم المرابطين في المغرب، وبدأ حكم الموحدين، وأشار المؤرخون أنه لولا قدوم المرابطين إلى الأندلس، لسقطت قبل أربعة قرون من سقوطها، واتفقوا جميعاً على هذه المقولة؛ حيث إن حضور المرابطين أخر سقوطها أربعة قرون.
خامسَا عهد الموحدين (من عام 541 – 635 هجري).
- و تعود دعوة الموحّدين لأبي عبد الله المهدي محمد بن تومرت، وهو بربري الجنس، وبعد أن توفى أوصى بالأمر لابنه عبد المؤمن، وهو الذي حارب المرابطين، وتمكن الموحدون من بسط سيطرتهم على بعض المناطق التي كانت بيد المرابطين، وفي عام 635 انتهى حكم الموحدين في الأندلس، وكان آخر ولاة الموحدين هو أبي يوسف يعقوب المريني.
سادسًا عهد مملكة غرناطة وانتهاء حكم المسلمين في الأندلس (من عام 635 – 897 هجري)
- بعد انتهاء حكم الموحدين، أرسل أهل غرناطة إلى ابن الأحمر يستدعونه؛ حيث تمت مبايعته أميراً لمملكة غرناطة، وبدأت الدولة الجديدة، والتي عرفت بــ (الأندلس الصغرى) دولة بني الأحمر في جنوب الأندلس. ما جعل مدينة غرناطة مدينة منيعة هو أنّها كانت قريبة من جبل طارق، وكذلك نتيجة لبُعد المناطق النصرانية عنها، كما أنّ أهل الأندلس وممن لهم الفضل انحازوا إلى غرناطة بعد سقوط المدن، إضافةً إلى الحمية التي أثارها العلماء، فتحرك الناس بالنخوة الشرعية، وحماية الأعراض لحفظ ما بقي من الأندلس. حكم المسلمين للأندلس أصبح منحصراً على مملكة غرناطة، ودام ذلك الحكم إلى عام 897 هجري، وقد أرسل الملك أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة يسأل النصارى الإذن بمغادرة الأندلس؛ حيث غادر الأندلس، واستمرت المنظمات الإسلامية في الأندلس لفترة، وآخر وجود لهم كان في عام 1183.
سقوط الأندلس
أسباب سقوط الأندلس
يُعزى سقوط الأندلس إلى عدة اسباب سنذكر أهمها :
الصراع بين العباسيين والأمويين:
تصادف عندما تم فتح الأندلس، أن يشتد الصراع بين الأمويين والعباسيين في مركز الخلافة دمشق، حتى تم القضاء على الدولة الأموية، وإنشاء الدولة العباسية على أنقاضها، وما صاحب ذلك من فرقة ونزاعات، وإستمر الحكم العباسي من عام 750م – 1258م، حيث إستمرت لمدة 524 عام.
وفي الوقت نفسه قام عبد الرحمن الداخل الأموي، والذي هرب من العباسيين من دمشق متوجهاً إلى المغرب، حيث يوجد أخواله، وأسس تحالفات وجمع الولاء له على أمل أن يعيد الخلافة الأموية، وبالفعل فقد كون جيش من البربر يقدر بثلاثة ألاف مقاتل، وتوجه إلى الأندلس، وإستقر في مدينة قرطبة، حيث أعلن عن قيام الإمارة الأموية في الأندلس بتاريخ 18 مايو عام 756م، التي تحولت إلى الخلافة الأموية فيما بعد، والتي إستمرت حتى عام 1031م، لمدة 275 عام.
و هنا يظهر حجم الفرقة والإنقسام في صفوف المسلمين، حيث ظل الصراع بين الخلافة العباسية في الشرق الإسلامي والخلافة الأموية في الغرب الإسلامي في كل من المغرب، وبلاد الأندلس، و ذلك أضعف المسلمين بصفة عامة وأضعفهم في بلاد الأندلس بصفة خاصة، وبدلاً من دعم الخلافة العباسية للمسلمين في الأندلس، عملت على إضعافهم وتآمرت عليهم.
إستقواء بعض الممالك الإسلامية بالصليبيين:
وقد تفشت ظاهرة الصراع بين الممالك الإسلامية المختلفة في عصر الطوائف، ولم تقتصر هذه الظاهرة على الصراع، ولكنها دخلت في الخيانة، حيث كان بعضها يستعين بالممالك الصليبية للإستقواء على مملكة مسلمة أخرى، وعلى سبيل المثال، إحتدم الصراع بين دولة بني ذي النون في طليطلة، مع إبن هود ملك سرقسطة، والعجيب المؤسف هو لجوء كل منهما إلى الممالك الصليبية لإستقواء كل منهما على الأخر.
الصراع بين القبائل العربية:
الصراع الدامي بين القبائل المضرية العدنانية والقبائل اليمانية القحطانية، مما إستنفذ كثير من طاقات المسلمين، وإستغله الصليبيين في توسعاتهم، وكان ذلك من أوائل عوامل ضعف المسلمين.
الصراع بين العرب والبربر:
بالرغم من أن دخول البربر في الإسلام كان عنصر قوة في بداية عهدهم بالإسلام، حيث كان لهم الفضل في فتح الأندلس مع المسلمين العرب، إلا أن النزاعات ما لبثت أن إشتعلت بين البربر والعرب، ولم تهدأ طول فترة حكم المسلمين للأندلس، مما كان له أكبر الأثر في إضعاف المسلمين.
إنحراف بوصلة المسلمين عن الهدف الأساسي لدينهم:
انحراف الولاة
فالهدف الأساس للجهاد هو صد العدوان، وإتاحة الفرصة للناس للتعرف على الدين الإسلامي السمح، بدون عدوان أو تَغوّل على الأخرين، ولكنهم توسعو في أخذ السبايا والعبيد والممتلكات، تحت إسم جهاد الطلب، مما جعل الصليبيين يحاولون كل الوقت للتخلص من المسلمين، بدلاً من أن يذوبو فيهم.
وقد حرص الولاة والأمراء والخلفاء على حكمهم وحكم أولادهم من بعدهم، وسعي من حولهم لإنتزاع الحكم منهم، جعلهم يستخدمون كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية، من سجن وقتل وفتن ودسائس وخيانات وترهيب لتثبيت حكمهم على حساب القيم الإسلامية الصحيحة وغياب العدل، مما أضعف روح الدين الإسلامي عند المسلمين، وبالتالي ضعفهم.
كما انغمس هؤلاء الولاة في ملذات الدنيا وتوسعوا فيها على حساب الفضيلة والأخلاق، والإنزلاق في الماديات على حساب الروحانيات التي هي هدف الدين أساساً، مما جعلهم يحبون الدنيا على حساب الأخرة، وتقاعسو حتى عن مساعدة بعضهم، وهذه “طليطلة” التي حاصرها الملك الفونسو السادس لمدة 9 شهور، في عام 1085م، إلا أن سقطت وبلا رجعة، دون أن يحاول المسلمون مساعدة إخوانهم المحاصرين، وكان معهم وقت كافي لنصرتها ولكنهم لم يفعلو، فسقطت، كما سقطت باقي المدن المختلفة واحدة تلو الأخرى.
لم يستطيعو أن يكونو قدوة حسنة للصليبيين، فبدلاً من أن ينشرو قيم العدل والرحمة والتسامح والمحبة، التي هي روح الدين الإسلامي، نشرو من خلال إقتتالهم مع بعضهم البعض، صورة مشوهة للإسلام، جعلتهم منبوذين وأساءت لهم كثيراً.
انحراف العلماء
تقاعس كثير من العلماء عن دورهم الدعوي والجهادي والإصلاحي؛ فقد اشتغل كثير منهم في المسائل الخلافية، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، بل إن كثيرًا منهم قد مدحوا الحكام وأثنوا عليهم وتغاضوا عن عيوبهم، وشاركوا في المنكرات، يقول ابن حزم في وصف هؤلاء العلماء: "ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزينون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم"، وبدلاً من دعوة الناس إلى الجهاد والثبات، نجد أحدهم يدعو الناس إلى مغادرة الأندلس؛ إذ يقول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال بعد سقوط طليطلة في يد النصارى سنة 475هـ:
يا أهل أندلس حثوا مَطيَّكمُ *** فما المقام بها إلا من الغلطِ
الثوب يُنسلُ من أطرافه وأرى *** ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ
ونحن بين عدو لا يفارقنا *** كيف الحياة مع الحيات في سفطِِ
تأثر الجنود بضعف الولاة
ولغياب البوصلة الصحيحة للجنود، فقد فقدو الروح المعنوية العالية، والبوصلة الصحيحة، مما أضعفهم وأضعف الجيوش الإسلامية، ففرق كبير بين حالهم بعد الفتح الإسلامي للأندلس، وحالهم في بداية الفتح، حيث إستطاع طارق بن زياد ب12 ألف مقاتل الإنتصار على ملك القوط، لُذريق ومعه مئة ألف مقاتل.
سقوط الأندلس
لم يكن سقوط الأندلس سقطة واحدة بين ليلة وضحاها بل كان تدريجيًا تلاشى الحكم الإسلامي فيها بسقوط مدنها مدينة تلو أخرى، فمع سقوط الدولة الأموية أصابت الأندلس حالة من الفوضى، وفي عام 385هـ أعلنت كلّ عائلة بارزة أو طائفة الاستقلال عن مدينتها وما يحيط بها؛ ممّا أدّى إلى انقسام الأندلس إلى إحدى وعشرين دويلة؛ لتبدأ فترة الضعف خلالها؛ حيث انتشر النزاع والخلاف بين ملوك الطوائف؛ واستغلّت الممالك الإسبانيّة هذا الضعف فاستولت بقيادة الملك فرديناند الأول على العديد من المدن سقوط المدن الأندلسية. في العام 748م سقطت مدينة بامبلونا الواقعة شمال البلاد، ثمّ برشلونة عام 985م، وسنتياغو عام 997م، وليون بعد خمسة أعوام من سقوط سنتياغو، ومدينة سلمنقة في العام 1055م، ومدينة قلمرية عام 1064م، ومدريد عام 1084م.سقوط طليطلة بعد سقوط طليطلة عام 1085م توجّه وفدٌ من علماء المسلمين إلى دولة المرابطين في المغرب الأقصى؛ للمطالبة بوقف زحف الإسبان، وقد وافق مؤسس دولة المرابطين يوسف بن تاشفين على طلب الوفد، ورغم النصر الذي حققه المرابطون على النصارى في معركة (الزلاقة) عام 1086م، إلّا أنّهم فشلوا في استعادة طليطلة. و بعد فشل المرابطين في الدفاع عن مدينة سرقسطة الأندلوسية انهارت دولتهم ، ونشأت الثورة في المغرب، والتي كانت لها نتائج سلبية بالنسبة لهم، ثمّ تحوّل الحكم إلى الموحّدين الذين دافعوا عن الأندلس، واستمرّ حكمهم إلى حين نشوء موقعة العقاب عام 1212م، حيث انهزموا خلالها وانتهى حكمهم، وبسقوط مدينة غرناطة في الثاني من يناير للعام 1492م الموافق 897هـ انتهى وجود المسلمين بالأندلس ، وذلك كان بعد العديد من الحروب التي قامت بها ممالك الشمال المسيحيّة على الثغور الأندلسية، والتي سُمّيت بحروب الاسترداد، وقد سقطت غرناطة عندما وقّع الملك أبو عبد الله الصغير معاهدة استسلام مع فرديناند وإيزابيلا الملكين الكاثوليكيين، حيث انتهت عندها الخلافة الإسلامية
النتائج المترتبة على سقوط الأندلس
لقد كان لسقوط الأندلس أشر النتائج وأسوأها و من ذلك ما سنذكره لاحقًا:
- تم تشكيل محاكم التفتيش، للقضاء على أي مظهر إسلامي، مهما كان صغيراً.
- قام الملكين إزبيلا وفرناندو في عام 1502م بإصدار مرسوم ملكي ينص على كل مسلم إما أن يتنصر، وإما أن يغادر البلاد، وإلا سيلاحق من المحاكم، ويضطهد ويعذب، وتم منحهم ثلاثة شهور للتنفيذ.
- في عام 1567م أصدر الملك مرسوم ملكي ينص على منع إستخدام اللغة العربية، والملابس العربية أو التسمي بالأسماء العربية ومنع الحجاب، وأمر بهدم الحمامات العامة والخاصة، ومن يخالف يعدم.
- تم تسمية مسلمي إسبانيا بلقب الموريسكوس وأُستخدم ضدهم أسوأ أنواع التمييز العنصري، ثم تم طرد مئات الألاف منهم إلى خارج إسبانيا، بدون أن يأخذوا معهم أي شئ من ممتلكاتهم، بإتجاه المغرب وليبيا وتركيا والشام.
- تم إلغاء جميع المعاهدات والعهود التي كانت قد عُقدت بين المسلمين والنصارى.
- تم تحويل جميع المساجد إلى كنائس نصرانية.
- تنصر حوالي مليون مسلم تحت التهديد، ومع الزمن إنصهر أحفادهم في المسيحية، وإنقطع إتصالهم بالإسلام.
- تم حرق جميع الكتب التي أنتجتها الثقافة الإسلامية في الأندلس، ما عدا بعض كتب الطب، التي نقلت إلى جامعة “الكالادي إينارس”.
- لقد تركت النزاعات الداخلية للمسلمين في الأندلس، آثارها التي إمتدت حتى بعد سقوط الأندلس، مما أضعف المسلمين بعد ذلك وأضعف هيبتهم.
و في النهاية علينا أن نؤكد ان الأندلس هي فردوسنا المفقود و مجدنا الضائع الذي سنظل نبكيه و نتباكى عليه لعل المجد يزهو ثانية و يبزغ فجر الأمجاد.
جزاكِ الله خيرًا 💚🥰
ردحذفرضي الله عنكِ حبيبة
ردحذف