كشف تدليس شهير في مسألة بقاء المسلمة على ذمة الكافر...
أفتت بعض المجامع الفقهية في أوروبا وبعض المنتسبين للعلم ببقاء النصرانية أو اليهودية إذا أسلمت على ذمة زوجها الكافر، وزعموا أن هذا هو قول بعض الفقهاء المتقدمين وأنه الأنسب والأيسر.
والواقع أنهم دلَّسوا على هؤلاء الفقهاء، فإن الذي فهمه العلماء المتقدمون من فتاوى هؤلاء الفقهاء أنهم يجيزون للنصرانية الذمية إذا أسلمت أن تبقى تحت زوجها الذمي ما أبقاها في دار الإسلام، وعامة الفقهاء يخالفون هذا القول، فلاحِظ أن عندنا عدة قيود هُم لا يعتبرونها في فتاويهم.
القيد الأول: أن يكون الزوج يهوديًّا أو نصرانيًّا، ويخرج من هذا الملحد واللاأدري والمجوسي وغيرهم.
القيد الثاني: أن يكونا في دار إسلام، ويخرج من هذا إذا كانا في دار كفر، فلا يجوز إفتاء الناس في دول أوروبا بهذه الفتيا، على أنها غير صحيحة أصلًا.
القيد الثالث: أن يكون الزوج ذميًّا، أيْ ليس محاربًا ولا معاهدًا عهدًا مؤقتًا ولا من الفلاحين المسالمين أو أصحاب المهن ممن لم يدخل في الحرب أو العهد.
ذكر الزوجين الذميين يسلم أحدهما
أجمع عوام أهل العلم في النصرانيين يسلم الزوج قبل امرأته، أنهما على نكاحهما، إذ جائز له في هذه الحال أن يبتدئ نكاحهما ولم تكن زوجه.
وأجمع أهل العلم أنهما لو أسلما معا أنهما على نكاحهما، كانت مدخولا بها أو لم يكن دخل بها.
حكم النصرانية التي تسلم و زوجها نصراني
واختلفوا في النصرانية تسلم وزوجها نصراني وهي مدخول بها.
فقالت طائفة: متى أسلم الزوج قبل أن تنقضي عدة المرأة فهما على نكاحهما.
روي هذا القول عن مجاهد، وبه قال قتادة، ومالك بن أنس، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد.
وفيه قول ثان: وهو إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن أبى أن يسلم فرق بينهما. فإن دخل بها فلها المهر، وإن لم يكن دخل بها فلها نصف المهر. هكذا قال الثوري.
وقال الزهري: إذا أسلمت هي عرِض عليه الإسلام، فإن أسلم فهي امرأته وإلا فرَّق الإسلام بينها وبينه.
وفيه قول ثالث: وهو أنهما إذا كانا في دار الإسلام فأسلمت امرأته فهي امرأته ما لم يعرض على الزوج الإسلام، فإذا عرض عليه الإسلام فأبى أن يسلم فرق بينهما الحاكم، وإن أسلمت المرأة ثم لحق الزوج بدار الحرب فقد بانت منه. وكذلك إن كانت في دار الحرب فأسلمت، ثم خرجت إلى دار الإسلام فقد بانت منه. وكذلك إن كانت في دار الحرب بافتراق الدارين، فإن أسلمت وهما في دار الحرب ولم يخرجا أو واحد منهما إلى دار الإسلام فهو أحق بها إن أسلم قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت عدتها فلا سبيل له عليها. هذا قول أصحاب الرأي.
وفيه قول رابع: روي عن جماعة من أهل العلم أنها تبين منه كما تسلم. واحتج بعض من يقول هذا القول بظاهر قول الله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.
وقال يزيد بن علقمة: كان جدي وجدتي نصرانيين، فأسلمت ولم يسلم هو، ففرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينهما.
وقال ابن عباس في النصرانية تكون تحت النصراني فتسلم المرأة: لا يعلو النصراني المسلمة، يفرق بينهما.
وقال الحسن، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز: لا سبيل له عليها إلا بخطبة.
وقال طاوس، وعطاء، ومجاهد: يفرق بينهما. وهذا قول ابن شبرمة، وأبي ثور، وبعض أصحابنا.
قال أبو بكر: وهذا القول أصح هذه الأقاويل في النظر.
وفيه قول خامس: في النصراني تكون تحته النصرانية، واليهودي تكون تحته اليهودية فتسلم (المرأة)، قال: هو أحق بها مادامت في دار هجرتها.
يروى هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال الشعبي في النصرانية تسلم قبل زوجها: هي امرأته، ولكن لا يخرجها من دار الهجرة. وروي عن النخعي أنه قال: تقر عنده، لأن له عهدا. وكذلك قال الشعبي.
وفيه قول سادس: روي عن عمر أنه خير نصرانية أسلمت وزوجها كان نصرانيا إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت معه.
و هنا تأمل أنه لا ينقل خلاف العلماء إلا في أهل الذمة فقط، وعامة الكفار الذين تفتي المجامع الأوروبية لهم ببقاء الزوجة مع زوجها لا ينطبق عليهم اسم الذمة.
وهو خاص باليهود والنصارى في دار الإسلام وليس دار الكفر، ففي دار الكفر كره عامة الفقهاء أن يتزوج الرجل الذمية هناك، فكيف تبقى مسلمة تحت كافر ليس ذميًّا في دار كفر! هذا ما أباحه أحد.
روى أبو عبيدة القاسم في الناسخ والمنسوخ بسنده عن الحكم بن عتيبة قال: قلت لإبراهيم: هل تعلم شيئا من نساء أهل الكتاب يحرم، فقال: لا. فقال الحكم: وقد كنت سمعت من أبي عياض أن نساء أهل الكتاب يحرم نكاحهن في بلادهن، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فصدق به وأعجبه قال أبو عبيد: وهذا هو المعمول به عند العلماء، لا أعلم بينهم في كراهته اختلافا.
شروط بقاء المسلمة تحت الذمي و فتوى العلماء
فإن قال قائل: كيف أباح بعض الفقهاء بقاء المسلمة تحت الذمي ولو بشروط وظاهر القرآن المنع المطلق؟
فيقال: هناك قاعدة فقهية تقول "الاستدامة أقوى من الابتداء".
من أمثلتها أنه لا يجوز أن يُسترقَّ المسلم ابتداءً، ولكن لو استرق النصراني ثم أسلم بقي رقيقًا ومسلمًا، ويبدو أنهم قاسوه على هذا مع كون قولهم مرجوحًا، لذا لا يجوز لمسلمة أن تتزوج غير مسلم ابتداءً باتفاق الناس، ومن استحل ذلك كفر، وإن كانت هذه الفتيا من تلك المجامع تمهيدًا لهذه البلية والله أعلم، شعروا أم لم يشعروا.
فإن قيل: أليس بعض الصحابة أسلمت زوجته قبله مثل عكرمة بن أبي جهل؟
فيقال: نعم، وهو أسلم وهي في العدة، أيْ قبل انقضاء عدتها، وقد قال الفقهاء أن له العدة فإن أسلم فيها فهما على نكاحهما.
قال الخلال في أحكام أهل الملل: أخبرني محمد بن علي قال: حدثنا صالح أنه سأل أباه عن نصرانية أسلمت ولها زوج؟
فقال: يراد على الإسلام، فإن أبى فرّق بينهما.
وقال: أخبرني الميموني قال: قرأت على أبي عبد الله: المرأة تسلم قبل زوجها، والزوج يسلم قبل امرأته؟
قال: المعنى واحد، إن أسلم أحدهما قبل الآخر فهما على نكاحهما ما لم تنقضِ عدتها. ثم قال لي: مسألة أخبرك، فيها اختلاف من الناس كثير، والموثوقون يختلفون فيها.
ويبدو أن أحمد لا يصحح المروي عن الصحابة مما يشعر بمخالفة هذا، وهو إمام متبع في الباب.
امثلة على تدليس اصحاب الحداثة على فتاوى الفقهاء
وحقيقةً هذه ليست بأول مرة لفقهاء (الحداثة)، فالمرء فيهم يشرب قلبه هوًى حداثيًّا متأثرًا بالأهواء الليبرالية ثم تجده يغوص في كتب الفقهاء وينبش عن أشبه شيء بهذه الأهواء ثم يبرزه للخلق مع شيء من البتر وتحميل الكلام ما لا يحتمل.
مثال: خلاف الفقهاء في الإنسان الذي تتكرر منه الردة، هل يستتاب في كل مرة أم تكون فرصته الأخيرة في الاستتابة عند المرة الثالثة أو الرابعة مثلًا فإن ارتد بعدها فإنه يُقتل مباشرة دون استتابة؟
قال بعض الفقهاء أنه يستتاب دائمًا ولو ارتد مائة مرة وعاد للإسلام في كل مرة، وعبروا عن ذلك بقولهم: يستتاب أبدًا.
ففهم بعض فقهاء الحداثة من كلامه أنه يقول: لا حد على المرتد!! وفرحوا بذلك وأشاعوه في الناس وقدَّموا فهمهم الأعوج لكلمة فَقِيه على الدليل الشرعي!
وهم الذين في مناسبات ليست بالقليلة يطعنون في صحاح الأحاديث واتفاق الفقهاء عليها، فحالهم مجرد عبث وتلاعب.
ولو صدَقوا في تحررهم الفكري المزعوم لحاكموا قيم الحداثة التي استسلموا لها بالكلية، وبحثوا عن أصولها ورأوا هل تتسق مع براهين الإيمان أم هُم مؤمنون بهذه القيم بشكل عجيب، حتى أن كثيرًا من معارضيهم السياسيين مشكلته مع الحكومات ليست أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، بل لأنهم لا يتقيَّدون بالليبرالية حقًّا، فحقيقة الخلاف بين عالمانية فاشية وليبرالية حالمة، ويظن بعض من لم يبصر الأمور على وجهها أنها معركة بين (الإسلام والكفر)!
وإلى الذين يتحدثون عن كون المرأة لا يمكنها أن تترك زوجها..
يقال لهم: افرضوا أن زوجها ملحد أو أن رجلًا أسلم وزوجته ملحدة، هل نجيز لهم البقاء؟
من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، والمرء المسلم ينبغي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وكانت النساء في زمن الصحابة يُسلمن ويهاجرن فيفارقن الأهل والبلدان حبًّا لله ورسوله ويتحملن في سبيل ذلك مخاطر عظيمة، والأمر اليوم أيسر والحمد لله.
تعليقات
إرسال تعليق